هوامش – بقلم ميرفت سيوفي- أبي في صُوَر

37

عامان وأنا أشعر أنّ صمت أيلول الذي أحبّه كثيراً قبض عليّ وحبسني في قفص، مات أبي ولم أستطع أن أكتب حرفاً عن رحيله، أكاد لا أصدّق أنّ عاميْن مرّا على غيابك يا أبي، صعبٌ جدّاً أن تقف في ردهة أخذ القرارات الحاسمة، وأنت بين الحياة والموت والهلوسة، صباح عيد الأضحى 9 تموز 2022 وقفت وكنت تترنّح في وقفتك وتُصرّ على مرافقتي لزيارة أمّي وخالتي ووالديْهما، قلتَ لي جملة واحدة: «هيدي آخر مرّة، بدّي روح»، وفي أول طريق عودتنا إلى المنزل سألتك: «لماذا قلت أنّها آخر مرّة؟»، أجبتني «يا أبي أنا أرى رؤىً خارقة منذ مدّة رويت جزءاً من التي رأيتها تلك الليلة وصمت عن جزء»، وعندما أحسست أنني استسلمت للحزن قلت: «لا تقلقي إن شاء الله بتعيّدو.. وأنا بعيّد معكن»، بالكاد أدركك المساء لم تعد قادراً على الوقوف على قدميْك، فجأة انهارت صورة الرّجل القوي الذي كان يحملني أنا وأخي كلّ واحد على كفّ ويدور بنا في المنزل!
أوّل وعيي عليك كنت بالكاد في الثانية من عمري أسمع صوتك تتلو القرآن وتُصلّي الفجر وعندما أنظر إليك أراك طويلاً جداً رأسك واصلٌ إلى سقف البيت المرتفع ما يقارب 5 أمتار فأخاف وأغمض عيني وأتساءل كيف بلغ طولك هذا الحد فجأة؟
صورك كثيرة في رأسي أقف أمام المحفور عميقاً، أوّل ما علّمتنا إياه «الحلال والحرام» فإذا مددنا يدنا في جيبك لنأخذ «فرنك» أخذته منّا وقلت لنا هذا «مال الناس» وأعطيتنا من جيب آخر «الفرنك» الحلال، رويداً رويداً علّمتنا أخلاق الإسلام، وأهمّ ما علّمتنا حبّ «الحبيب المصطفى» في كلّ مناسبة كنت تجمعنا حولك وأمي جالسة معنا في حلقة صغيرة لنقرأ المولد النبوي الشريف الذي علّمتك إياه جدّتك، أنت علّمتني لاحقاً ما أدعو به أثناء الوضوء كنت صغيرة وفي مدارس المقاصد كنّا نؤدّي صلاتيْ الظهر والعصر.
في العاشرة من عمري بدأت الحرب، كنت تحرص يومياً على قراءة ثلاث صحف على الأقل، وتقرأ لنا الإفتتاحيات والمقالات الهامّة في هذا العمر، عرفت ماذا تعني صحيفة، وتركتني أقرأ كل ما كنت تأتي به، فتعلّقت بالحبر والمهنة. في الرابعة عشر من عمري اجتمع عليّ الكلّ لمحاكمتي لأنّني أدخّن، أجلستني قربك كأنّك تحميني من كلامهم، وبعد أن أفرغوا ما في جعابهم، التفتّ إليّ بهدوء وسألتني: «بابا، هل تدخّني»؟ أجبتك بتحدٍ شديد للجميع «أيه». قلت لي جملة واحدة «كل ما أستطيع فعله هو أن أنصحك، وأنت حرّة»، ولم أقلع عن التدخين إلا عندما بلغت أول درجات الانسداد الرئوي، وكنت بيدك تشتري لي علبة الدّخان. وفي صفّ الأوّل ثانوي كنت تحسب ثمن علبة الدّخان التي سأشتريها من خارج «مصروفي». دائماً كنت كريماً هيّناً ليّناً، تركت لنا مساحة المراهقة والتجربة حتى لو لم تكن موافقاً عليها.. كنت أباً نادراً جدّاً وصالحاً جدّاً جدّاً. صورة بعد من صور كثيرة غيّرت في حياتي، عندما لم أقبل في امتحان كليّة الإعلام قلت سأدرس علوم سياسيّة، وعندما رفضت والدتي لبُعد الجامعة عن المنزل في زمن الحرب، وارتأيتم أنّ الأسلم أن ألتحق بكلية الآداب والعلوم لقصر المسافة بينها وبين المنزل. رافقتني تسجّلت في قسم الأدب العربي من دون اكتراث حتى، عندما غادرنا المبنى كانت دموعي تسيل على عرض وجهي، طبطبت على كتفي وقلت لي: «عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم»، وكانت صدمتي العُظمى مع دخولي الجامعة كافتيريا تبيع الكحول، أساتذة طلاب يسكرون ويتعاطون المخدرات، علاقات جنسية في الصفوف، غرباء يجلسون في كافتيريات الجامعة ليتصيدوا براءة فتيات السنة الأولى، كان هذا في العام 1984، قرّرت أن أنقطع عن الذّهاب إلى الجامعة، مرّ شهران توقظني أمي صباحاً أكذب وأقول محاضراتي بعد الظهر، توقظني بعد الظهر فأقول الجو ماطر لن أذهب، أدركت أنني لم أعد أريد الذهاب فاستنجدت بك، بهدوء، جلست إلى جانبي على الكنبة وسألتني: «ليش ما عم تروحي عالجامعة؟»، قلت لك: «بدّي آخدك عهالجامعة العظيمة وقعدّك ساعة بالكافتيريا تتشوف وين زتيتوني»، قلت بهدوء شديد، حسنا أنت غبت لمدة شهريْن، هل الحياة مستمرة على ما هي عليه في الجامعة قلتُ: نعم، سألني من الذي توقفت دورة حياته؟ أجبته أنا؟ كنت منطقيّاً كأنك درست المنطق والفلسفة مع أنّك كنت صبيّاً درس حتى الثالث إبتدائي وكره المدرسة بسبب اللغة الفرنسيّة فأخذه أبوه معه إلى محلّ الخضار في سوق النوريّة ليعمل معه، هذا الموقف غيّر حياتي ومن حيث اخترت لي في عامي الأول في الجامعة كنت قد بدأت العمل في إذاعة «صوت الوطن» وأنشر قصائد في صحف عديدة. آخر صورة، رأيتك تستنجد بي عاجزاً عن الكلام على سريرك في العناية الفائقة، خرجت وسألت متى ستضعونه على جهاز التنفّس الإصطناعي؟ أوقفوا عذابه الآن، خدّروك ووضعوك على الجهاز، وعندما أيقظوك صباحاً لم تستيقظ، كانت آلة غسيل الكلى الخيار الأخير، تركت أختي لنا القرار اتصلتُ بشقيقي وافق فوراً، كنت رافضاً أن تخضع لغسيل الكلى، لكنّك كنت نائماً، غادرت قليلاً لأزور صديقة عمر خضعت لجراحة في مستشفى آخر، بالكاد كانت الزيارة خمس عشرة دقيقة، تحت المستشفى وأنا أركن سيارتي رنّ الهاتف كان الطبيب فور رؤيتي لاسمه عرفت بما سيخبرني، قال: أنا آسف.. قلت له: توفّى؟ أجابني نعم، سألته عن السبب، قال: كانت عمليّة غسيل الكلى على وشك الانتهاء وناجحة ولكن، توقّف قلبه. أحبّ أيلول، الآن أحبّه أكثر، رافقتك في كلّ اللحظات التي تلت وفاتك حتى أول منازل الآخرة، أبي اليوم غرّة ربيع الأنوار شهر مولد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعليك السلام يا أبي.
ميرڤت سيوفي
m _ syoufi@hotmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.