هل يعرف لبنان كيف يخسر؟
بقلم خيرالله خيرالله
«أساس ميديا»
لا يزال في استطاعة لبنان تفادي مواجهة واسعة مع إسرائيل ستكون بمنزلة كارثة عليه. لا فائدة من المكابرة التي يمارسها الحزب ما دامت توجد خطوط عريضة لتسوية تحفظ البلد، أو ما بقي منه، وتعيد النازحين إلى بيوتهم بعيداً عن عنتريّات لا فائدة منها. التراجع ليس عيباً، كذلك الاعتراف بالواقع وموازين القوى على الأرض. التنازل من أجل لبنان ليس تنازلاً، بمقدار ما هو شجاعة وتضحية من أجل وقف حال الانهيار لبلد لديه ماضٍ حديث يستطيع التفاخر به. الخوف من تراجع لبنان بعد فوات أوان التراجع عندما لا تعود لمثل هذه الخطوة فائدة تذكر.
من الواضح أنّ الكلام الذي صدر عن رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي في ضوء الجلسة التي عقدها مع الرئيس نبيه برّي كان كلاماً مهمّاً، على الرغم من أنّه جاء متأخّراً ويمكن أن تكون الأحداث تجاوزته. لم يكن كلام ميقاتي كلاماً عشوائياً، بل في أساسه نصائح من جهات دولية وعربيّة تسعى إلى تفادي مزيد من المآسي على أرض لبنان.
عندما تفادى ميقاتي غزّة
تضمّن كلام ميقاتي خطوطاً عريضة يمكن اعتمادها في حال كان مطلوباً العثور على مخرج بدل الاستمرار في الدوران داخل حلقة مغلقة. إنّه دوران للبنان على نفسه في وقت تبحث كلّ دولة من دول المنطقة عن مصلحتها. في مقدّم هذه الدول تأتي إيران التي يبحث النظام فيها عن حماية نفسه. ليس سرّاً أنّ دفاع نظام “الجمهوريّة الإسلاميّة” عن نفسه يظلّ أولويّة الأولويّات من جهة، وأنّ المشروع التوسّعي الإيراني يعاني حالاً من التقهقر من جهة أخرى.
تعمّد ميقاتي في تصريحه الأخير تفادي ذكر غزّة وربط لبنان بها. هذا أمر مهمّ على الرغم من إصرار الحزب على ذلك. ثمّة حاجة إلى صوت لبناني يقول إنّه لا تزال هناك بقايا دولة لبنانيّة تتكلّم باسم لبنان الذي دخل مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد هيمنة الحزب على البلد ومؤسّساته. لا شكّ أنّ الإتيان على إعلان التزام لبنان القرار 1701، بعيداً عن الكلام الفارغ، من نوع رفض إسرائيل تنفيذ القرار، يمكن أن يفيد في شيء. يوجد واقع لا يمكن الهرب منه يتمثّل في أنّ الحزب رفض منذ صدور القرار، صيف عام 2006، تنفيذ أيّ بند من بنوده باستثناء “وقف الأعمال العدائية” مع إسرائيل. حظي الحزب الرافض للقرار 1701 بغطاء من الدولة اللبنانيّة التي آن أوان القول، بطريقة أو بأخرى، إنّها ما زالت موجودة.
إلى ذلك كلّه، تعمّد رئيس حكومة تصريف الأعمال الإشارة إلى ضرورة انتخاب رئيس للجمهوريّة لا يكون مرشّح تحدّ. هذا أمر مهمّ نظراً إلى أنّ هذا الكلام يمكن أن يمهّد لإعادة تركيب السلطة بشكل طبيعي بعيداً عن هيمنة الحزب، خصوصاً إذا دفع الرئيس نبيه برّي في هذا الاتجاه وميّز نفسه عن الحزب.
الارتباك الإيراني والفرصة اللبنانية
يمكن أن تساعد لبنان، مستقبلاً بعد انجلاء المعارك، حال الارتباك التي تسود “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، التي تؤكّد هذه يومياً عجزها عن خوض أيّ مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل أو مع الاثنتين معاً وأنّها لا تريد ذلك. لا يمكن أخذ الردّ الإيراني على اغتيال إسماعيل هنيّة وحسن نصر الله جدّياً، خصوصاً أنّ طهران حرصت على إبلاغ الإدارة الأميركية بنية شنّ الهجوم الصاروخي سلفاً وذلك حرصاً على مستقبل العلاقة الأميركية – الإيرانيّة!
لا شكّ أنّ الحوثيين في اليمن يعانون الكثير حالياً على الرغم من صوتهم العالي. بدأت تظهر بوادر تململ داخلي في مناطق سيطرة الحوثيين. من الباكر الرهان على هذا التململ، لكنّ كلّ المعلومات الواردة من الداخل اليمني تشير إلى أنّ وضع الحوثيين لم يعد مرتاحاً كما كانت عليه الحال في الماضي القريب.
فوق ذلك كلّه، ليس ما يشير إلى أنّ الوضع الإيراني في سوريا لا يزال على حاله لأسباب عدّة. بين الأسباب الوهن الذي أصاب كلّ الميليشيات الإيرانيّة التي تصول وتجول في الأراضي السورية، وذلك في ضوء ما تعرّض له الحزب.
في هذه الأجواء، لا بدّ من ملاحظة ارتداد إيراني على العراق، بما يعبّر عن الهموم الحقيقية الآنيّة لطهران. يوجد تركيز لدى الإيرانيين على العراق وسط خوف من إفلاته. يظلّ العراق، الذي تسلّمته “الجمهوريّة الإسلاميّة” على صحن فضّة من إدارة بوش الابن في عام 2003، الجائزة الكبرى التي تريد الاحتفاظ بها.
يفسّر ذلك اختيار الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان الذهاب إلى بغداد ثمّ إلى أربيل لمغازلة الأكراد قبل أن يزور أيّ مكان في العالم. كذلك توجد محاولات يبذلها، في الوقت ذاته، إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” للملمة أوضاع حكومة السوداني التي تعاني من مجموعة لا بأس بها من الفضائح مرتبطة بالفساد والتنصّت على السياسيين أساساً. يبقى العراق الذي حاول مؤسّس “الجمهوريّة الإسلاميّة” آية الله الخميني التمدّد فيه، منذ اليوم الأوّل لقلب نظام الشاه، المجال الحيوي الأهمّ لإيران، خصوصاً من زاوية البعد الشيعي لدولة فارسيّة أصلاً تبحث عن شرعيّة مذهبيّة ليست موجودة غير في النجف وكربلاء.
في الحروب والسياسة، أن تعرف كيف تخسر أهمّ بكثير من أن تعرف كيف تربح. الدليل على ذلك تغلّب ألمانيا واليابان على هزيمتهما في الحرب العالميّة الثانية واستعادة البلدين لموقعهما الحالي في العالم. هل في لبنان، البلد الصغير الذي لا يمكن مقارنته بألمانيا واليابان، من يعرف كيف يخسر ويرى في المآسي التي يعاني منها فرصة… أم لا حياة لمن تنادي في ضوء المغامرة التي جرّ إليها الحزب، ومن خلفه إيران، البلد كلّه مشرِّداً أهل الجنوب بما يخالف كلّ منطق في السياسة والاقتصاد والعلوم العسكريّة والعلاقات بين الدول؟
خيرالله خيرالله