نتنياهو أستاذ علم الابتزاز السّياسيّ!
بقلم عماد الدين أديب
«أساس ميديا»
هل هناك بالفعل خلاف جوهري وحقيقي بين واشنطن وتل أبيب؟
هل هناك تضارب مصالح بين البلدين حول ما يحدث في الشرق الأوسط؟
هل بالفعل كان هناك تقصير أميركي من قبل إدارة جو بايدن في مجالات الدعم السياسي والماليّ والتسليحيّ والأمنيّ للدولة العبرية منذ أحداث 7 أكتوبر حتى الآن؟
أسئِلة مباشرة ومنطقية وواقعية تحتاج إلى إجابات: مباشرة، ومنطقية، وواقعية.
نبدأ بما يتردّد من أنّه موضوع الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. هناك روايتان: الرواية الأميركية تدّعي أنّ الخلاف يدور حول انفلات إدارة بنيامين نتنياهو في الوحشية والقتل وفي منع كلّ وسائل الحياة عن المدنيين وفي التشدّد اللانهائي في اتفاقات الهدنة وفي خلوّ الأفق السياسي الإسرائيلي من أيّ مشروع سياسي مقبول لشكل إدارة غزة في صبيحة اليوم التالي.
تعالوا نناقش أوّلاً الرواية الأميركية بعناصرها.
بالتأكيد لا اعتراض جوهرياً أو ثانوياً من قبل أميركا على مبدأ وهدف تأسيس ونشوء وضرورة تطوّر الدولة العبرية منذ اليوم الأوّل حتى الآن. ونسمع دائماً عبارات “وحدة المصير” و”التحالف الحديدي” و”الالتزام التاريخي” و”التحالف المصيري” و”الارتباط الاستراتيجي” بين واشنطن وتل أبيب.
لذلك ترى واشنطن أنّ دور إسرائيل هو التعبير عن المصالح الأميركية والقيم الغربية المضادّة للشيوعية، والإرهاب الديني، والقيم المضادّة لحقوق الإنسان.
إسرائيل كما وصفها ديفيد بن غوريون: “هي واحة الحرّية، وقاعدة التقدّم في محيط متخلّف ومعادٍ”.
إذاً الاعتراض جوهري، لكن يوجد دائماً “حوار أخويّ بين الحلفاء التاريخيين”.
مئات مليارات الدّولارات…
لا اعتراض أميركياً عقائدياً مثل اعتراض التناقض الأيديولوجي الأميركي مع الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، أو دينياً مثل تناقض واشنطن مع طهران أو كابول أو داعش، أو وطنيّاً مثل خلاف واشنطن مع بكين أو هافانا أو فنزويلا وكاراكاس.
تصعد وتهبط حركة الأخذ والردّ والارتباطات والبيع والشراء عند مواسم الانتخابات الرئاسية وانتخابات التمديد لمجلسَي الشيوخ والنواب التي يلعب فيها الصوت اليهودي واللوبيات المؤيّدة لإسرائيل دوراً مؤثّراً لا يمكن أن يتجاهله أو يعاديه أيّ مرشّح على أيّ مستوى.
بناء على هذا التحالف المقدّس حصلت إسرائيل حتى نهاية الربع الأخير من 2023 على مساعدات ومنح أميركية تقدّر بـ158.6 مليار دولار أميركي، منها 144 ملياراً في المجال العسكري.
وبناء عليه تحصل إسرائيل على أحدث ما تنتجه الترسانة العسكرية الأميركية.
وبناء عليه تحصل على تفاصيل المعلومات “الشديدة السرّية والأكثر دقّة” في مجال التعاون الاستخباري وصور الأقمار الاصطناعية الأميركية.
وبناء عليه يحصل الجيش الإسرائيلي على النظام الأفضل في التدريب العسكري وفي النطاق الأول في المناورات المشتركة مع الولايات المتحدة.
وبناء عليه تحصل إسرائيل على مظلّة حماية سياسية ضدّ أيّ قرار إدانة أو عقوبات في أيّ منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة أو خارجها باستخدام حقّ النقض “الفيتو” أو بالتأثير الأميركي المباشر.
3 رجال أميركيّين فهموا العلاقة
أكثر من فهم هذه العلاقة من منظور أميركي هم 3 رجال:
- الجنرال أيزنهاور الذي وجّه إنذاراً غاضباً لإسرائيل وفرنسا وبريطانيا بضرورة الانسحاب من السويس عام 1956 .
- هنري كيسنجر الذي رأى أنّ إسرائيل يجب ألّا تصبح عبئاً على الولايات المتحدة من خلال ربط مصالحها الأساسية بالمصالح الاستراتيجية الأميركية. لذلك قدّم كيسنجر نفسه لرئيسة حكومة إسرائيل غولدا مائير في زيارته الإنقاذية لتل أبيب عقب حرب أكتوبر (1973) كما يلي: “أنا بصفتي وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية وليس بصفتي يهودياً”.
بالطبع هذا مخالف تماماً لوضعية أنتوني بلينكن الذي قال عقب 7 أكتوبر 2023: “أنا هنا بصفتي يهودياً بالدرجة الأولى”. وبعده تصريح بايدن المذهل: “عشت حياتي كلّها صهيونياً أؤمن بها”.
- أمّا الرجل الثالث الذي تصرّف بشكل أميركي فهو وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر الذي منع بيبي نتنياهو من دخول مبنى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن بخطاب رسمي غير مسبوق.
في عهدَي بيل كلينتون وباراك أوباما تمّ إيقاف أو تجميد بعض الصفقات والشحنات العسكرية من أميركا، لكن في النهاية تمّ توريدها في مواعيد لاحقة. بل إنّ إدارة أوباما سلّمت إسرائيل واحدة من أكبر الصفقات العسكرية إذ بلغت قيمتها 34 مليار دولار على الرغم ممّا أبدته من عدم رضاء سياسي على سلوك حكومة نتنياهو.
الرواية الإسرائيلية..
من يريد الآخر؟
المتابع للعلاقة بين واشنطن وتل أبيب يبدو له من النظرة الأولى أنّ طبيعة هذه العلاقة تقوم على أنّ إسرائيل هي الدولة العظمى والولايات المتحدة هي الدولة الدنيا التابعة لها!
الإجابة على هذا السؤال يمكن إيجادها في كتاب “دور اللوبي الإسرائيلي في السياسة الخارجية”. وهو كتاب مهمّ جدّاً كتبه البروفسور جون ميرشايمر وستيفن والت، وخلص فيه الكاتبان إلى أنّ “قوّة اللوبي اليهودي الإسرائيلي هي المحرّك الرئيسي في اختيار وتسمية ودعم كلّ المرشّحين في مؤسّسات الدولة والحزبين الرئيسيَّين”.
نتنياهو “يؤمرك” معاركه الانتخابيّة
بالمتابعة لدور “الإيباك” يمكن القول إنّ التغيّرات في موازين القوى الجديدة دخلت من التجمّع السياسي للتيّارات المسيحية الإنجيلية التي تملك كتلة تصويتيّة مخلصة لها تزيد على 65 مليون صوت.
بهذا الفهم للّعبة السياسية الأميركية كان نتنياهو أوّل سياسي إسرائيلي يقوم بـ”أمركة” المعركة الانتخابية الداخلية للوصول إلى مقعد رئاسة الحكومة.
استعان في معاركه بأهمّ وأمهر خبراء الانتخابات والتسويق السياسي الأميركيين وغطّى نفقاتهم الباهظة من “الإيباك” والتيار الإنجيلي.
في معركته الأولى استعان بالخبيرين فرانك لانس وآرثر فنكلشتاين من 1996 إلى 1999.
في معركة 2009 استعان بالخبير جون ماكلوغلين، وهو من أهمّ الخبراء الذين أنجحوا دونالد ترامب في حملته بعد ذلك بسنوات.
وكانت علاقة الدعم الماليّ والدعم السياسي الكامل من رجل الأعمال الشهير ومالك نوادي القمار صموئيل نيلسون هي أحد أهمّ عناصر نجاح نتنياهو لسنوات طويلة.
أمركة الحياة السياسية في عهد نتنياهو دعمتها سياساته الاقتصادية الليبرالية المحفّزة للاستثمار والتي حوّلت الاقتصاد الإسرائيلي من اقتصاد تلعب فيه الرأسمالية دوراً أساسياً إلى اقتصاد حرّ. وهو ما خلق طبقة جديدة من ثروات كبرى لتيّارات يمينية متشدّدة تمثّل الجسم الصلب في تكتّل الليكود.
نتنياهو “يملك” مفاتيح البيت الأبيض
بإختصار بيبي نتنياهو هو منتَج أميركي خالص استعان بكلّ ما هو أميركي لخدمة مصالحه السياسية والشخصية.
وباختصار نتنياهو هو الوحش الذي صنعته قوى أميركية وجعلته أكثر رئيس دولة أجنبية يتاح له إلقاء خطب سياسية مباشرة في جلسات خاصة داخل الكونغرس، وهو شرف تعدّى الحليف الأجنبي الأكبر لواشنطن السياسي العملاق وينستون تشرشل.
باختصار نتنياهو يتصرّف مع البيت الأبيض من منظور أنّه الرجل الذي يملك مفاتيح كلّ أبواب هذا البيت وليس بايدن.
يدرك نتنياهو أنّه يملك مفاتيح تسمية وإنجاح بايدن أو ترامب. لذلك يبتزّ الجميع بوقاحة غير مسبوقة. باختصار هذا ليس خلافاً لكنّه ابتزاز رخيص!
الطلقة الأخيرة التي ستوضح المقصد النهائي للعبة الابتزاز التي يديرها نتنياهو مع إدارة بايدن سوف نجدها صريحة واضحة في خلاصة خطاب الرجل أمام الكونغرس الأميركي.
هذه هي لحظة نتنياهو التاريخية وخطاب عمره السياسي.
إنّه الاستعراض السياسي الكبير أو كما يسمّونه بالإنكليزية: The Big Show.
عماد الدين أديب