مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط
بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من تهديد الزعامة الأميركية. وهو ما يجعل المواجهة وتصاعد التوتّرات مع واشنطن أمراً حتمياً في ظلّ وصول الرئيس دونالد ترامب مرّة جديدة إلى البيت الأبيض. ومن المؤكّد أن تشكّل منطقة الشرق الأوسط نقطة محورية في هذا التنافس لأنّ الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم ستؤثّر على أسواق الطاقة، وستزيد المنافسة على النفوذ، وتضع دول الشرق الأوسط أمام تحدّيات صعبة وهي تسعى إلى التوفيق بين مصالحها.
كان الرئيس المنتخب دونالد ترامب واضحاً في حملته الانتخابية حين تعهّد بمواجهة الصين وركّز على التحدّي الذي تشكّله في مواجهة الولايات المتحدة. ولهذه الغاية أعدّ العدّة من خلال ترشيحه لمناصب السياسة الخارجية والاستخبارات والأمن القومي أشخاصاً معروفين في تشدّدهم في موضوع الصين، وعلى رأسهم مرشّحه لقيادة الدبلوماسية الأميركية ماركو روبيو المعروف بآرائه المتطرّفة والحازمة تجاه الصين في مجلس الشيوخ.
دخول الصّين الشّرق الأوسط
خلال ولاية ترامب الأولى اعتمدت الصين بشكل متزايد على نفط الشرق الأوسط، خصوصاً من السعودية والعراق، لتلبية احتياجات اقتصادها المتنامي. في المقابل، قلّلت الولايات المتحدة من اعتمادها على واردات النفط من الشرق الأوسط بفضل ازدهار إنتاج النفط الصخريّ، واستمرّ هذا النهج في عهد الرئيس جو بايدن الذي فضّل مواجهة الصين من خلال نسج تحالفات دولية.
سمح هذا التباين للصين بتعميق علاقاتها الاقتصادية مع المنطقة، خصوصاً من خلال عقود الطاقة الطويلة الأجل والاستثمارات في البنية التحتية ضمن مبادرة الحزام والطريق.
بالنسبة لدول الخليج مثل السعودية، كانت العلاقة مع الصين شريان حياة اقتصادي. ومع ذلك، أثارت هذه العلاقات مخاوف في واشنطن دافعة إيّاها إلى تبنّي موقف صارم تجاه توسّع النفوذ الصيني عالمياً. ومن المتوقّع أن تزداد حساسيّة واشنطن مع ولاية ترامب الثانية.
سياسة ترامب العدوانيّة
في ولايته الأولى انتهج ترامب سياسات تجارية عدوانية ضدّ الصين أثّرت على الأسواق العالمية، ولم تكن منطقة الشرق الأوسط بمنأى عن هذه التداعيات. فرض الرسوم الجمركية والردّ الصيني عليها خلقا تقلّبات في أسعار الطاقة أثّرت على الاقتصادات الخليجية التي تعتمد بشكل كبير على النفط.
من المتوقّع أن ينتهج ترامب المقبل سياسات مشابهة مع تشدّد أكثر. فهو سيزيد من تشدّد واشنطن تجاه إيران، وهذا سيفاقم المشهد تعقيداً. وكان انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني في عهد ترامب وفرض عقوبات “الضغط الأقصى” دفعا طهران إلى التقارب مع بكين. ففي عام 2020، وقّعت الصين وإيران شراكة استراتيجية لمدّة 25 عاماً تضمّنت استثمارات في قطاع الطاقة الإيراني، معزّزتين العلاقات الاقتصادية والسياسية بينهما.
بالنسبة لإيران، كانت الشراكة مع الصين بمنزلة طوق نجاة في مواجهة العقوبات الأميركية الشديدة. لكنّ هذا التقارب قد يشكّل ورقة مساومة إيرانية في أيّ حوار مستقبلي مع واشنطن من أجل إبرام صفقة حول ملفّها النووي.
إلى جانب الطاقة، ستكون للحرب التجارية التكنولوجية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين آثار كبيرة على الشرق الأوسط، بعدما حقّقت شركات التكنولوجيا الصينية مثل هواوي تقدّماً كبيراً في المنطقة. فهي ساعدت في بناء شبكات الجيل الخامس والمدن الذكيّة في دول الخليج.
غضب واشنطن من حلفائها
هذه المشاريع تتماشى مع أهداف دول مثل الإمارات والسعودية في تنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط، إلا أنّها أثارت انتقادات حادّة من واشنطن. وقد حذّرت الأخيرة حلفاءها من المخاطر الأمنيّة المحتملة للتكنولوجيا الصينية، وضغطت على دول الخليج للحدّ من تعاونها مع شركات مثل هواوي. فالصين هي البلد الوحيد الذي ينافس الولايات المتحدة في مجالَي الذكاء الاصطناعي و”الحوسبة الضخمة” quantum computing. وضاعفت الصين من إنفاقها العسكري وتحديداً في سلاحها البحريّ، فازدادت هواجس واشنطن وقلقها من تعاظم قوّة الصين.
خلق تركيز واشنطن على مواجهة الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وانكفاؤها عن الشرق الأوسط فرصاً أمام بكين لتوسيع نفوذها في المنطقة، سواء اقتصادياً أو عسكرياً أو حتى دبلوماسياً من خلال رعايتها لاتّفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية.
برزت علاقات الصين المتنامية مع طهران بشكل لافت. لكنّ بكين حافظت أيضاً على علاقات قويّة مع السعودية والإمارات، مظهرةً قدرةً على التعامل مع تناقضات المنطقة. في الوقت نفسه، استغلّت روسيا المنافسة الأميركية-الصينية لتعزيز موقعها في الشرق الأوسط، متحالفة مع الصين في بعض المجالات مع السعي إلى تحقيق أجندتها المستقلّة.
تنويع الشّراكات العربيّة
بالنسبة للعديد من دول الشرق الأوسط، عزّز النهج الأميركي القائم على الصفقات التجارية والتركيز على المصالح الاقتصادية الحاجة إلى تنويع الشراكات، وأدّى إلى اتّباع استراتيجية متعدّدة الأقطاب، حيث انخرطت الدول مع كلتا القوّتين العظميين لتعظيم مكاسبها. لكنّ هذه الاستراتيجية ستواجه تحدّياً كبيراً في عهد ترامب الذي يرفض مشاركة الصين النفوذ في منطقة لطالما اعتقدت واشنطن أنّها مناطق نفوذها.
تحوّلت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في عهد ترامب إلى ساحة معركة استراتيجية في الشرق الأوسط، حيث تسعى القوى الإقليمية إلى التوفيق بين المطالب المتعارضة للقوّتين العظميين. وبينما أعادت الحرب التجارية تشكيل الأسواق العالمية والتحالفات، وجدت دول الشرق الأوسط نفسها تسير على خيط رفيع وهي تحاول حماية مصالحها في عالم يزداد استقطاباً. وهذا المشهد من المتوقّع أن يتكرّر وبشكل أوضح مع عودة ترامب.
مع استمرار التوتّرات بين واشنطن وبكين دون أيّ بوادر للتهدئة، تظلّ منطقة الشرق الأوسط ساحة معركة حاسمة، حيث تتقاطع الطاقة والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية في مشهد معقّد ومليء بالمفاجآت.
ربّما مجيء ترامب لقيادة الولايات المتحدة وأسلوبه الواضح في السعي إلى تحقيق مصلحة المواطن الأميركي أوّلاً، قد يساعدان في تسريع التسويات وعقد الصفقات. الصين التي ترى العالم أسواقاً تجارية والدول العربية التي تنظر دائماً بعين الريبة اتجاه أميركا وتدخّلها في شؤونها الداخلية، قد تجد في ترامب رجلاً عمليّاً مستعدّاً دائماً للتوصّل إلى اتفاق إذا حصل على ما يريد.
القيم الأميركية والمبادئ الديمقراطية التي كانت تضعها واشنطن شرطاً لتعزيز العلاقات مع دول العالم وتبني عليها تحالفاتها، أصبحت غلافاً جميلاً للمصالح القومية وسيتجلّى ذلك بشكل أوضح مع ترامب وسياسة “الصفقات والمعاملات الاقتصادية”.
موفق حرب