من اتّخذ قرار الاغتيال؟ وما هي أعراض “اليوم التّالي”؟

81

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

لا أحد في “مؤسّسة” لبنان الحكومية والدستورية وحتى السياسية صدّق الزلزال الذي ضرب البلد والمنطقة منذ “حرب الاجتثاث” التي شنّتها إسرائيل ضدّ الحزب، انتهاءً بارتكاب محرّم، بات سابقاً، باغتيال أمينه العام. بدا لبنان الرسمي يتعامل مع الحدث كشاهد عليه وليس أصلاً في داخله.. ولئن قد يدرك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وبقيّة طاقم السياسة، موالين ومعارضين، حقيقة جذور وتداعيات ما حدث، فإنّهم ما زالوا، جميعاً، كما حال عواصم الدنيا، يراقبون الموقف بكثير من التأمّل والارتباك والحذر من استخلاص النتائج.

تفصح نصوص ما يُكشف بشأن “الزلزال” الذي ضرب “المقرّ الرئيسي” للحزب في حارة حريك، في قلب “الضاحية”، عن أنّ المسألة احتاجت إلى قرار، وأنّ توقيت هذا “القدر” لم يحتج يوماً، خلال العقود الأخيرة،  إلا إلى قرار، على الرغم من كلّ تدابير الأمن والأمان التي أحاطت بزعيم الحزب. وبدا أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو اتّخذ القرار بناءً على قراءة تحوّلات دولية باتت تجيز الفعل وجاهزة لردّ الفعل. وداخل هذه التحوّلات من رأى أنّ التحوّل الأكبر ظهر في طهران وتدحرجت مفاعيله على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي على الرغم من غضبه المزعوم من “شقاوة” نتنياهو، وصف اغتيال نصرالله بأنّه “تحقيق العدالة لضحاياه”.

في الأمر سياق ملتبس منذ أن تدافعت مواقف من داخل إيران تبشّر بأنماط تُسقط “الثورة” من خطاب الجمهورية الإسلامية. صحيح أنّ “هندسةً” خبيثةً أتت بالإصلاحي مسعود بزشكيان رئيساً، وصحيح أنّ حديث الأخير عن “الأخوّة” مع الولايات المتحدة يتّسق تماماً مع خطاب الانفتاح الذي حمله إلى منصبه… غير أنّ الوليّ الفقيه، علي خامنئي، بصفته مرشداً للجمهورية التي أرسى ركائزها روح الله الخميني، أفتى فجأة بسقوط التقدّم والإقدام، واللجوء إلى “التراجع التكتيكي”.

قرار الاغتيال… في إيران؟

تمّ اغتيال زعيم الحزب بعدما نشرت الصحف الإيرانية تقارير تكشف طيّ احتمال الردّ على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة الذي اغتيل في طهران في نهاية تموز الماضي. دفعت طهران لاحقاً نصرالله نفسه إلى إعلان ديباجة تعفي إيران ونظام دمشق من أيّ انخراط في سيناريوهات أيّ ردّ على أيّ فعل. وحين أبدت منابر بيئة الحزب غير الرسمية عشيّة الاغتيال وبعده غضباً من تخلّي “الثورة” في إيران عن “مولودها” في لبنان، جاءت منابر إيران بالردّ القاطع. تحدّث وزير الاستخبارات، إسماعيل خطيبي، عن إصرار “المحور” على تحرير القدس وإزالة الكيان انتقاماً، ووعد رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف بأنّ “إيران ستواصل دعم الفصائل” التي لن تسكت.

بكلمة أخرى تنأى إيران الدولة بنفسها عن أيّ ردّ متوخّى أو موعود.

وجّهت إسرائيل ضربة قاصمة إلى إيران في اللحظة التي قذفت مقاتلات الـ F-15 الأميركية أطنانها من القنابل الأميركية على رأس مركز نصرالله والقيادات التي كانت ترافقه. تلقّت طهران الرسالة وأعلنت “نقل المرشد إلى مكان آمن”. سدّد اغتيال زعيم الحزب صفعة مربكة إلى كلّ فصائل المحور. ذلك أنّ نصرالله لم يكن فقط قائداً لفصيل من هذه الفصائل القابضة على “العواصم الأربع”، بل قائد له، ومشرف على ملفّاته،  ومنسّق لأنشطته، تدريباً وتسليحاً وتمويلاً وإدارةً لعمليّاته.

نهاية مشروع تصدير الثّورة

ينهي الاغتيال نظام إيران بصفته مشروع ثورة مستمرّة تُصدّر إلى كلّ المنطقة لينحشر داخل “نظام الدولة” بما هو إدارة لمصالح البلد على دفتر الخسائر والأرباح.

سمع الرئيس الإيراني في نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، كلاماً قاطعاً بانتهاء عهود “التعايش” مع حالة شاذّة وجدت في “عقيدة أوباما” ملاذاً وظلال إيمان. هرع بزشكيان لارتكاب الوعد “بوضع السلاح جانباً”، مطلقاً لعنة على قدسيّة السلاح الذي ارتكب الحزب في لبنان من أجله الكبائر. هذّب وزير الخارجية عباس عراقجي القول لتهدئة نفوس اغتالها اغتيال نصر الله، مسبوقاً بالقضاء الممنهج على كادرات الميدان وقادة قطاعات الحزب في السياسة والعسكر والعقيدة.

في “اليوم التالي” للحدث الجلل، بدا أنّ إيران ذاهبة إلى خيارات جديدة، وبدا أنّ “محور المقاومة” بات حادثاً عرضياً يفرج عن آخر صواريخه في إعلان صريح أنّ طهران “لن تنخرط في معركة يريدها نتنياهو”، وفق ما تردّد أبواق إيران وفصائلها داخل “هلالها” المتصدّع المتهالك.

استفاد نتنياهو من صمت العواصم. لكنّ الحقيقة أنّ العواصم “جميعها” ترعى بصمتها ورشة لا تردعها مواقف واشنطن وباريس ولندن، ولا تربكها كثيراً مواقف ملتبسة صدرت عن بكين وموسكو. وحده لبنان لا يصدّق ذلك “اليوم التالي”.

حماية لبنان من سيناريو غزّة

يحتاج نتنياهو إلى تحقيق هدف صادقت عليه حكومته بإعادة سكّان الشمال إلى بيوتهم. لم يحقّق “إنجاز” جيشه حتى الآن ذلك الهدف. وحتى الحديث عن احتمالات العملية البريّة لا يبدو مقنعاً. والواضح أنّه فوق لبنان تنتصب مظلّة دولية تحميه من حمم العقائد الإسرائيلية في طبعتها الغزّيّة. وحتى تطبيق القرار 1701 غير مضمون النتائج إذا لم تتوافر له آليّات تدخّل عسكري دولي، وفق قرار تحت الفصل السابع، من الصعب على النظام الدولي المنقسم الاهتداء إليه.

قد يوفّر تنفيذ القرار 1701 الصادر عام 2006، وفق ما يتمنّى رئيس الحكومة اللبنانية، أمناً لسكّان شمال إسرائيل، لكنّه لا يوفّر سكينة للبنان واللبنانيين. صحيح أنّ في ثنايا هذا التلميح استدراجاً لتنفيذ القرار 1559 الصادر عام 2004 والقاضي بنزع سلاح الميليشيات جميعها (بما في ذلك الحزب)…. غير أنّ من المعيب أن يحتاج لبنان إلى قرار دولي لتطبيق بديهيات في قواعد صيرورة أيّ دولة في العالم. ولئن يصدر الجيش اللبناني بياناً يناشد فيه هدوء العامّة في لحظات عصيبة من تاريخ البلد، فإنّ واقعاً سياسياً جديداً يفرض في “اليوم التالي” الدور الأوّل لهذا الجيش في احتكار السلاح.

يتأمّل ساسة البلد الحدث الجلل كتأمّل العواصم القريبة والبعيدة مرور العاصفة. ومع ذلك يجب الاعتراف بأنّ لبنان بتركيبته التاريخية والسياسية والطائفية وبحالته الاقتصادية والسياسية وأزمة نظامه السياسي أضعف من أن يواجه “اليوم التالي”. تعرف الدائرة العربية ذلك وتدرك الدائرة الدولية هذا الواقع.

يحتاج التحوّل إلى مظلّة دولية واسعة ضاغطة تفرض قواعد جديدة للّعبة الكبرى، وعلى لبنان واللبنانيين أن يصدّقوا “اليوم التالي” ويستعدّوا له.

محمد قواص

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.