لبنان بين أميركا وفرنسا: حلّ دائم.. أو الميدان و«غزّة 2»

33

بقلم جوزفين ديب

«أساس ميديا»

وسط المتغيّرات السريعة التي فرضت نفسها في الأشهر الأخيرة، لا بدّ من الاعتراف والاقتناع والتصرّف وفق هذا المعطى الجديد. فإنّ زمن الماضي ولّى ومستقبل لبنان خرج من أيدي القوى السياسية، وأصبحت قضيّته مدوّلة، وتدويلها ليس سوى إرادة ورغبة وخطّة واشنطن التي تستعيد زمام المبادرة وتتقدّم في تحديد مستقبل البلد.

بالأمس كانت واشنطن خلف إسرائيل في الحرب عبر تولّيها المفاوضات عسى أن تصل إلى أهدافها بالطرق الدبلوماسية. أمّا اليوم فأصبحت واشنطن تتقدّم إسرائيل في مقاربتها للوضع اللبناني. لم يعد من وقت لإضاعته لأنّ القوى المحلّية اللبنانية مجبرة على السير في سكّة الحلّ الدولي على طريقة “مُكرَهٌ أخاك لا بطل”. وذلك بعدما أصبح نموذج غزّة يقترب بجدّية بالغة إلى الساحة اللبنانية.

ساد في السنة الماضية اعتقاد بأنّ إسرائيل تسيّر العالم، بما فيه القوّة الكبرى فيه الولايات المتحدة الأميركية. فاللوبي اليهودي يملك التأثير الأضخم على كلّ الصناعات العالمية بما فيها صناعة القرار. وبعد السابع من أكتوبر تجنّدت اللوبيات العالمية اليهودية خدمة لأمن اسرائيل، ودعماً لحربها لتحقيق “سلامها الأبدي” وفقاً لعقيدتها الدينية وفق تصوّرات العهد القديم. هذا لا نقاش فيه.

الأهمّ الذي بدأ يتمظهر اليوم أنّ إسرائيل لم تكن قادرة على تحقيق كلّ ما خطّطت له في العام الأخير من دعم سياسي ولوجستي وتقني وماليّ من واشنطن وأوروبا. لكنّ ما حصل في الشهر الأخير، وتحديداً الردّ الإيراني على إسرائيل بالصواريخ البالستية، يجدر التوقّف عنده على اعتباره نقطة تحوّل في سلوك واشنطن تجاه تل أبيب.

والدليل على ذلك عاملان أساسيّان:

– أوّلاً: امتنعت واشنطن عن صدّ الدفعة الأولى من الصواريخ البالستية التي انطلقت من إيران، في رسالة واضحة لتل أبيب بحاجتها الماسّة إلى تعاون واشنطن معها عسكرياً، والضغط عليها لضبط اندفاعة نتنياهو نحو التصعيد.

– ثانياً: الرسائل الحاسمة التي بعثتها واشنطن إلى تل أبيب بأن لا يتخطّى ردّها على إيران حدّاً يؤدّي إلى حرب إقليمية أو حدّاً قد يسقط النظام في إيران.

بايدن لنتنياهو: لبنان ليس غزّة

بعد انتظار طويل وغضب نتنياهو من عدم قدرته على التواصل مباشرة مع الرئيس الأميركي، اتّصل جو بايدن بنتنياهو وناقشه بمستقبل حربه في المنطقة، واضعاً حدوداً لكلّ العناوين، وتحديداً في إيران ولبنان. وأهمّ ما في الاتّصال أنّ واشنطن لن تسمح بتحويل لبنان إلى غزّة ثانية، مع استمرارها بدعم نتنياهو في مسار حربه على الحزب حصراً، وتحييد المطار والمرافق الحيوية اللبنانية.

هذا الكلام تلاقيه المعلومات التي تحدّثت عن جولة قام بها الملحق العسكري للسفارة الأميركية في عوكر مع قائد جهاز أمن المطار للتأكّد من خلوّ المطار من أيّ أسلحة وحسن مراقبته للحركة الأمنيّة فيه. وعليه سرعان ما أصدر قائد المطار قراراً بتفتيش كلّ آليّة عند الخروج بعد مرورها بقسم الجمارك في المطار.

هذا ليس تفصيلاً بل مقدّمة لبسط رقابة مباشرة على كلّ المعابر اللبنانية، جوّاً وبرّاً وبحراً، من خلال قوات دولية أو أبراج مراقبة أو أيّ وسيلة ممكنة لضمان عدم دخول أسلحة إلى لبنان. كما أنّه إعلان أميركي بأنّ مطار بيروت خطّ أحمر على إسرائيل ألّا تتخطّاه وألّا تقصفه.

واشنطن: لرفع قبضة الحزب عن لبنان

في السياق نفسه تقدّمت واشنطن على تل أبيب في مسألة الحزب، وأصبح نزع سلاح الحزب مطلباً أميركياً ودولياً، وكذلك التطبيق الكامل للقرار 1701 بما فيه القرار 1559. وما كان مقبولاً من واشنطن في زمن المفاوضات التي قادها موفدها آموس هوكستين، لم يعد مقبولاً اليوم. لا بل إنّ الضغط على الحزب وصل إلى حدّ رفض تل أبيب وقف إطلاق النار وفصل المسار اللبناني عن غزة، واشتراطها لوقف إطلاق النار في لبنان أن يتزامن مع إطلاق الرهائن في غزة.

وبالتالي باتت تفاوض اليوم واشنطن وخلفها تل أبيب من كلّ أبواب القوّة التي تملكها بعدما استطاعت اغتيال قيادة الحزب بكاملها.

الرسالة واضحة: واشنطن تدعم إسرائيل في حربها للقضاء على الجناح العسكري للحزب وضرب كلّ ترسانته العسكرية، من دون أن يمتدّ ذلك إلى الجناح السياسي. وتدعم في الداخل اللبناني مساراً يرفع قبضة الحزب عن القرار السياسي في البلد ويعيد إلى لبنان توازنه السابق قبل تعاظم قوّة الحزب وتوسّع نفوذه وتأثيره على الكبيرة والصغيرة فيه.

ليس المطلوب بحسب مصادر دبلوماسية أميركية لـ”أساس” كسر الحزب، بمعنى إقصائه من الوجود، فهي تدرك أنّ هذا ليس ممكناً، بل المطلوب إعادته إلى الحجم السياسي الذي يتمتّع فيه أيّ فريق لبناني، ووقف الغلبة والاستفراد بالقرار والاستقواء بالسلاح في المشهد الداخلي، بحسب المصادر أيضاً.

واشنطن: لرئيس يحتضن كلّ اللّبنانيّين

بعدما كان البلد متروكاً من دون أن يتواصل أحد مع القوى السياسية فيه، بدأت حركة دبلوماسية فرنسية، بريطانية، وأميركية ضاغطة تظهر جليّة، بالإضافة إلى حركة المنسّقة العامّة للأمم المتحدة في لبنان جنين بلاسخارت التي تعمل على الملفّين الأمنيّ والسياسي معاً.

وفق مصادر دبلوماسية أميركية، تدفع واشنطن باتجاه انتخاب رئيس للجمهورية يستطيع أن يحتضن كلّ اللبنانيين، لا سيما في أزمة النزوح المستجدّة وما يمكن أن ينتج عنها من أزمات لاحقة، ورئيس يحظى بثقة المجتمع الدولي للوصول إلى وقف إطلاق النار وتحرير الأراضي اللبنانية في الجنوب ونشر الجيش اللبناني فيها، ورئيس يستطيع أن يحفظ التوازن في البلد بحيث لا تكون غلبة لفريق، تحديداً الحزب، على آخر.

إلا أنّ اندفاعة واشنطن الواضحة هذه سيف ذو حدّين، كما تقول مصادر سياسية. فهي من جهة حاجة لحسم اللاقرار اللبناني، ومن جهة أخرى قد تؤدّي إلى احتراق أيّ مرشّح تدعمه وتخاطر بتقديمه مرشّح تحدٍّ حتى لو لم تكن تريده كذلك.

في المقابل، نقل عضو تكتّل الاعتدال النائب أحمد الخير في تصريح تلفزيوني عن الرئيس نبيه برّي “خارطة الطريق” التي اتفق عليها في الاجتماع الثلاثي (برّي مع الرئيس نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط)، خارطة ما زالت “على الطاولة”، وتتضمّن بالتدرّج:

– انتخاب رئيس.

– ثمّ وقف إطلاق النار.

– ثمّ تطبيق كامل للقرار 1701.

الحزب يرفض: القرار للميدان

تقول مصادر دبلوماسية فرنسية لـ”أساس” إنّ السفير الفرنسي يقوم بجولة على القوى السياسية تحت عنوانين أمنيّ ورئاسي. لكنّها تدرك أنّه يبدو بحسب واقع الحال أنّ “الكلمة الأخيرة ستكون للميدان”، للبناء على الشيء مقتضاه. هذا ما لمسته المصادر من جولتها على الساحة السياسية.

في المقابل تقول مصادر مقرّبة من الحزب إنّه على الرغم من كلّ الخسائر والتضحيات، ما زال مبكراً استعجال حسم الحرب لأنّ الحرب الميدانية والدخول البرّي الإسرائيلي لن يكونا نزهة. وستعوّل على نتائج المعركة البرّية لإيقاظ نتنياهو من نشوته وإعادته إلى طاولة المفاوضات. وبالتالي لا رئيس قبل نتائج الميدان. هذا ما استدركه بايدن جيّداً وترجمه في اتّصاله مع نتنياهو، الذي لم يطلب منه وقف إطلاق النار، بل أن يتجنّب استهداف المدنيين فقط. وبالتالي أعطاه الضوء الأخضر لاستكمال مهمّته حتى إشعار آخر.

لكلّ هذه الأسباب، من اليوم حتى ظهور نتائج الميدان، لا بدّ من القول إنّ بايدن نجح في تجنيب طهران ضربة قاضية، واستعاض بها بضوء أخضر لنتنياهو لاستكمال حربه على الحزب في لبنان، والحوثي في اليمن، بعدما حيّد العراق وحيّدت سوريا نفسها عن المعركة.

جوزفين ديب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.