عام غزّة يلد حروباً وفاشيّة

24

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

العدوان الإسرائيلي على غزة بدأ قبل سنة، ولا يزال مستمرّاً بوتيرة القتل والدمار ذاتها، ليمثّل أطول حرب في تاريخ الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب منذ عام 1948. هذه الحرب كسرت العقيدة العسكرية الإسرائيلية القائمة على العمليات الخاطفة، وتخطّت حدود القطاع الصغير الذي يواجه أخطر عملية إبادة لأهله على جغرافية ضيّقة، لتولد حروب جديدة تمتدّ ساحاتها من الضفّة الغربية إلى عمق الضاحية الجنوبية في لبنان إلى باب المندب في اليمن وصولاً إلى قلب إيران.

“عملية طوفان الأقصى”، التي خرقت الجدار الحديد في غلاف غزة، عمّقت الأزمة الوجودية في الكيان الذي أذلّ أهل الأرض وجيرانهم، وأشاع الخوف والقلق من حوله، وصولاً إلى مَن أغراهم التطبيع معه، ودفع في المقابل المقاومين لاحتلال أرضهم والرافضين للخضوع للخيار الحاسم: إذا كان لا بد من الموت، فلنمُت واقفين.

سنة كاملة من السحل الكامل لبشر القطاع وحجره، ولم يتمكّن “حاكم إسرائيل المطلق” من إعلان “النصر المطلق”. فلا الأسرى الإسرائيليون عادوا، ولا الأعلام البيض رُفعت، ولا المقاومة استسلمت، بل سطّرت صموداً عجائبياً يشبه الخيال والروايات الأسطورية.

ما عجز عن فعله في غزة يحاول الآن تطبيقه في لبنان، مستعيناً بقدرات تدميرية هائلة ودعم أميركي مفتوح وأحدث ما ابتكره الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا من فنون الإرهاب والاغتيال الأعمى الذي بلغ ذروته باغتيال الأمين العام للحزب، ورهط كبير من قادة الحزب والمقاومة، ويمنّي نفسه بارتكاب ما هو أفظع ضدّ إيران التي ما انفكّ يصفها بـ”الشرّ المطلق” في العالم و”أصل البلاء” في الشرق الأوسط.

وحشية نتانياهو غير المسبوقة

أظهر نتنياهو مواهب فريدة في فنّ الإمساك بالسلطة في الداخل وتطويع المعارضين لسياسته وتقزيم خصومه وتحييد أهداف الحرب على غزّة. عبر استدعاء تحدّيات أكبر تتمثّل في الحزب وإيران. وكشف عن قدرات “إبداعية” في ممارسة البطش والإرهاب والفتك بأعدائه في الخارج وتبرير الجريمة وادّعاء المظلومية. لكنّه أرسى فاشية عنصريّة في إسرائيل ستزرع في طيّاتها بذور تفتيتها وضربها من داخلها.

في غضون سنة بات رمزا التطرّف في إسرائيل إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وقبلهم أرييل شارون ومناحيم بيغن وسفّاح مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994 باروخ غولدشتاين، “حمائم ناعمة” مقارنة بـ”توحّش” نتنياهو الذي بات يستحقّ أن يعتلي منصّة صاحب الأرقام القياسية في الجرائم ضدّ الإنسانية.

حكومة نتنياهو ثبّتت نظريّة “صفريّة الصراع”: “وجود أو فناء”، وتالياً انعدام الحلول الوسط مع الفلسطينيين. وأن لا خيار إلا بتصفية الوجود المادّي الفلسطيني على أرض فلسطين، وسحق كلّ من ينادي بالحقّ الفلسطيني ويتمسّك برفض الاحتلال والتهويد. وتعتقد أنّ الوقت حان لـ “حسم الصراع” وإنجاز ما لم يحصل عام 1948 من خلال طرد من بقي من الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية. في حين عملت على تخويف الإسرائيليين وزرعت في صفوفهم “فوبيا” المستقبل، لضمان اصطفافهم خلف سياساتها العدوانية. وازدادت هذه الاستراتيجية أهمّية في مجتمع ممزّق يعاني من تنوّع عرقي كبير، ويفتقر إلى المشتركات التاريخية والثقافية والحضارية. ولا يجمع بين أفراده إلا الخرافات التاريخية والخوف الذي رافقهم من الماضي، ولا يزال يسكنهم حتى اليوم.

نهوض تيّار الصهيونية الدينية

حكومة نتنياهو الحالية تختلف عن حكوماته الخمس السابقة التي كانت تغلب عليها سيطرة اليمين العلماني، في أنّها تعبير عن فكر جديد يريد أن يقيم دولة إسرائيل الثانية إثر تجاوز النظام الجديد التيّارين: اليساري المؤسّس، واليميني القومي العلماني. هذا التيار هو تيار الصهيونية الدينية.

هذا التيار يمينيّ فاشي شكّل المكوّن القومي المتطرّف لحزب الليكود رافعة أساسية له، واتّخذ الرؤية الدينية الخلاصية منارة لتحرّكاته. على عكس التيارات السابقة التي كانت تعتبر الدين مجرّد وسيلة للوصول إلى جمهور يهودي أوسع.

إسرائيل اليوم دولة ثيوقراطية دينية صهيونية لا تتعامل مع الواقع حولها بالمنطق الجيوسياسي، وإنما بمنطق النبوءات والرؤى والنصوص الدينية التي تحكم قرارات هذه الدولة. أسقطت السياسة والحلول الدبلوماسية وتمسّكت بمنطق الحرب من أجل الحرب والدم من أجل المزيد من إراقة الدم. وسّعت دائرة المعارك وفتحت جبهات جديدة شمالاً وجنوباً وشرقاً باندفاعة غير منطقية وتجاوزت كلّ الخطوط الحمر وحطّمت كلّ قواعد الاشتباك والعقائد التي اعتمدتها طوال العقود السبعة الماضية. لم تراعِ أيّ معاهدات دولية أبرمتها حكوماتها السابقة. أطاحت اتفاق أوسلو. لم تقِم اعتباراً لاتفاق كامب ديفيد ولا لسلامها مع مصر كبرى الدول العربية. خالفت بنود معاهدة وادي عربة وأحرجت الأردن مراراً وتكراراً، لا سيما في الضفّة والأغوار، وابتزّته بماء الشرب والغاز.

أحدث نسحة فاشية في العالم

إسرائيل الحالية لم تعد مجرّد كيان استعماري استيطاني يفرض آخر احتلال في القرن الحالي، ويحاول تخليد التطهير العرقي الذي ارتكبه ضدّ الشعب الفلسطيني عام 1948، بل ويوسّعه… وليست آخر نظام للفصل العنصري في العالم. هي كلّ ذلك، إضافة إلى أنّها باتت الممثّل الشرعي والوحيد في العالم لأحدث نسخة من الفاشية في العالم.

الفاشيون يعتقدون أنّهم فوق البشر وقادرون على فعل أيّ شيء ولا أحد قادر على ردعهم، وهذه العقلية تتجذّر يوماً بعد يوم منذ 7 أكتوبر الماضي.

في هذه الإسرائيل لا مكان لحقوق الإنسان، ولا احترام للقانون الدولي، ولا استعداد للالتزام بالقانون الإنساني الدولي، ولا تقدير لحياة الفلسطيني أو اللبناني أو العربي، رجلاً كان أم امرأة أم طفلاً بريئاً. فالغاية تبرّر الوسيلة مهما كانت وحشيّتها ولاإنسانيّتها. هذه هي صورة الكيان التي تتبلور. هي لا تحترم حصانة الدول وسيادتها، ولا تقيم اعتباراً للمخاطر التي يجرّها سلوكها.

الدم يجرّ الدم، والحقد يولّد الحقد، واليأس يولّد الانفجار. ما تزرعه إسرائيل من كراهية من حولها في هذا الشرق فستحصده يوماً. وإذا واصلت السير على طريق الجنون والتهوّر فسيكون متعذّراً على يهود العالم أن يجدوا الأمان، الذي كانوا ينشدونه بعد انتهاء الحرب العالمية والقضاء على النازية. بل سيرتدّ هذا المسار سلباً على مكانة اليهود في المجتمعات الدولية أو سينعكس سلباً على مكانة الدولة العبرية عند يهود العالم.

– نيرون أحرق روما وانتحر.

– هتلر دمّر العالم ثمّ انتحر.

– موسوليني ارتكب الفظائع وكانت نهايته حبل المشنقة.

بمنطق التاريخ يبدو أفق المشروع الفاشي الإسرائيلي حالك السواد. وإذا كان من الصعب التنبّؤ بمسار المستقبل وسيرورة التاريخ، فإنّ المسألة تبقى معلّقة بمن سيتصدّى لهذه المهمّة المفصليّة والملحّة وبأيّ نهج واستراتيجية وتكتيكات بعدما اختبرنا هذا الكمّ الهائل من التجارب والنكبات.

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.