سلطة “الأذرع” في الشرق الأوسط
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
نشرت مجلة “إيكونوميست” العالمية تحقيقاً عن ظاهرة الميليشيات أي الأذرع في الشرق الأوسط. وحدّدت الدول العربية التي تمارس فيها الميليشيات المسلّحة أدواراً رئيسية في صناعة القرار السياسي، وفي مقدَّمها لبنان، ثمّ سورية والعراق وليبيا واليمن. أمّا السودان فذلك موضوع عسكري آخر.
لبنان والحزب
في لبنان يوجد الحزب الذي تصف المجلّة تسلّحه بأنّه يفوق سلاح الجيش عُدّةً وعديداً. وتقول المجلّة إنّ “المواطن اللبناني يجد في أيّ حدث بذور حرب أهلية جديدة”. وآخر حدثين أشارت إليهما المجلّة هما: الخلاف الذي وقع بين أهل بلدة رميش في جنوب لبنان مع الحزب حول مبادرة الحزب إلى إقامة منصّة لإطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل. ولم تكن معارضة البلدة ضدّ قصف إسرائيل من حيث المبدأ، لكن ضدّ إقامة منصّة الإطلاق في بلدتهم، وهو ما يعرّضهم لردّ فعل انتقامي تدميري من إسرائيل، وهذا ما حدث بالفعل.
استناداً إلى ما ورد في مقال المجلّة فإنّ الحزب يجمع بين كونه قوّة ذاتية مسلّحة تتفرّد باتّخاذ قراراتها، وبين كونه جزءاً من المنظومة السياسية في الدولة داخل الحكومة والبرلمان والمؤسّسات الإدارية المتعدّدة. وهذه ظاهرة خاصّة ومميّزة. وربّما المثال الوحيد لها هو في بنغازي بطرابلس الغرب. ولكن هناك استتبّ الأمر دون منافسة فعّالة لقائد الجيش الليبي. أمّا غرب ليبيا وجنوبها، وخاصة عاصمتها الإدارية (؟) طرابلس، فيختنقان بالميليشيات المسلّحة على غرار ما شهدته بيروت خلال الحرب الأهلية الأخيرة، حتى إنّ الشيخ الشهيد الدكتور صبحي الصالح الذي جرى اغتياله في قلب بيروت وهو خارجٌ من مسجد ساقية الجنزير لم يُعرف حتى اليوم من ارتكب جريمة الاغتيال ولحساب من؟ فالشيخ الصالح كان عالماً صالحاً متعالياً عن الانتماءات الحزبية والميليشياوية والمذهبية. وربّما استُهدف بالاغتيال من أجل ذلك، أي لإثارة الفتنة.
ميليشيات العراق والمآرب الأخرى
الحدث الثاني الذي أشارت إليه مجلّة “إيكونوميست” والذي كان يمكن أن يشعل فتيل الحرب الأهلية، فهو حادث اغتيال أحد منتسبي حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان. مرّت عدّة أيام قبل أن يكشف التحقيق أنّ الرجل ذهب ضحيّة سرقة سيارة وليس لأسباب سياسية أو طائفية. ولكن إلى أن توصّل المعنيون إلى هذا “الاكتشاف”، عاش لبنان أجواء خوف من انفجار حرب أهلية جديدة. إذ تردّدت مواقف التهديد والتهديد المعاكس، وجرى استنفار طائفي متوتّر، وبدا لبنان مرّة جديدة على شفا حفرة جديدة من حفر جهنّم. ولذلك تقول المجلّة إنّ المواطن اللبناني يجد في كلّ حدث أمنيّ بذور حرب أهلية جديدة.
لا تتحدّث المجلّة عن السودان الذي انقسم جيشه الوطني إلى مجموعتين ميليشياويّتين أحرقتا الأخضر واليابس، وحوّلتا هذا البلد المعروف عن أهله الوداعة إلى جهنّم وبئس المصير.
وما حدث ويحدث في دارفور خاصّة يشكّل نموذجاً للحرب الأهلية القبلية بعد تغييب السلطة. إلا أنّ مقال المجلّة يعطي متّسعاً للحديث عن الميليشيات في العراق التي تستمدّ وجودها، ثمّ شرعيّتها، من محاربة داعش وبقايا الخلايا السرّية لـ”القاعدة” في العراق. ولكنّ الواقع هو أنّ لهذه الميليشيات “مآرب أخرى” داخل العراق وخارجه.
في اعتقاد “إيكونوميست” أنّ هذه المآرب تُترجم أهداف السياسة الإيرانية في المنطقة. فهي مثل الحزب في لبنان تعتمد على الدعم الإيراني تمويلاً وتسليحاً.
هنا تؤكّد المجلّة أنّ الميليشيات المسلّحة تحاول، وقد نجحت في محاولاتها، تحقيق التمويل الذاتي. وتنقل عن وزير المال الأسبق علي علاوي قوله إنّ خزينة العراق لا تحصل إلا على أقلّ من مليار دولار من أصل سبعة مليارات هي قيمة الضرائب الجمركية.
تقول المجلّة أيضاً إنّه في عام 2022 أقامت الميليشيات مجمّعاً إعماريّاً، واستطاعت إقناع الدولة بمنحها مساحة من الأرض تبلغ نصف مساحة قبرص.
ثمّ إنّ هذه الميليشيات تفرض رسوم مرور على شاحنات النقل، وتجبي أموالاً طائلة من وراء ذلك. ولذلك هي قادرة مادّياً على تقديم قروض للمواطنين.
ليست ظاهرة الميليشيات غريبة عن المجتمعات العالمية، لكنّ هذه الظاهرة في العراق تأخذ بعداً مختلفاً وأشدّ إثارة، إذ إنّ الميليشيات العراقية تسيطر الآن على 12 في المئة من مقاعد مجلس النواب. وتقول المجلة إنّ “هذه هي حال الحزب أيضاً في لبنان”.
في اعتقاد المجلّة أنّ هذه الظاهرة تؤدّي إلى قيام دولة ضعيفة وغير شرعية. وتحاول المجلّة أن تعزو هذه الظاهرة إلى خلفيّات تاريخية، منها إهمال حقوق الطائفة الشيعية في لبنان لفترات طويلة، وسوء معاملة شيعة العراق طوال 24 عاماً من حكم صدام حسين. أمّا في ليبيا فتأخذ الانقسامات أبعاداً قبلية وعشائرية. يضاف إلى ذلك سوء حكم الرئيس السابق معمّر القذافي.
أمّا في سورية فالوضع أكثر تعقيداً. هنا ترى المجلّة أنّ عوامل طائفية ومذهبية تختلط مع عوامل اجتماعية وسياسية أدّت إلى الانفجار الذي فرّق المجتمع السوري المتنوّع دينياً وعرقياً شرّ ممزّق.
تعريف شرق أوسطي للثوار
تخرج “إيكونوميست” في نهاية المقال بالنظرية التالية:
إنّ تعريف الثوار هو محاربة الدولة. ولكن في الشرق الأوسط تعطي الدولةُ نفسها الشرعيةَ لحركات ثورية لتستخدمها ضدّ حركات أخرى. وبعد مرور الوقت تصبح الدولة عاجزة عن السيطرة أو كبح جموح هذه الحركات الثورية.
حدث ذلك في سورية والعراق. وحدث في لبنان. أمّا في اليمن فقد تحوّل الحوثيون بعد الاضطرابات التي أعقبت ثورة 2014 من أداة بيد السلطة إلى مالكي السلطة ومصادريها (اغتيال علي عبد الله صالح).
كان اليمن يسعى إلى إحياء الوحدة بين الشمال والجنوب. أمّا الآن فقد أصبح الشمال شمالات، والجنوب جنوبات. لقد توافرت العوامل الثلاثة للتشرذم الذي أدّى إلى الانهيار. وهذه العوامل هي: دولة ضعيفة وصراع داخلي، وفقدان المصداقية. وهكذا انتشرت المجاعة وتعمّق الفساد.
ترى المجلّة أنّ الميليشيات في العراق ولبنان وسوريا اعتمدت سيناريو مختلفاً. فبدلاً من السيطرة على الدولة كما فعل الحوثيون عملت على التعاون معها. وتقدِّم الحزب نموذجاً. فالحزب، كما تقول المجلّة، يسيطر على الحدود مع سوريا، ويسيطر على عدد من المؤسّسات الأمنيّة والاستخبارية. وتذكّر المجلّة باجتياح بيروت في عام 2008 لحمل الحكومة على اتّخاذ قرار بإلغاء ما يعتبر الحزب أنّه يتعلّق بأمن عناصره وعملياته.
تؤكّد المجلّة ما هو معروف من أنّ إيران تسيطر على مجموعة من هذه القوى المسلّحة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، فيما يتولّى آخرون مهمّة السيطرة على المجموعات المسلّحة في ليبيا.
تعتبر المجلّة أنّ الولايات المتحدة حاولت قطع “حبل الصُرّة” بين إيران وهذه المجموعات المسلّحة من خلال فرض العقوبات، لكن من دون تأثير يُذكر.
تقرّ المجلّة في النهاية بأنّه ما دامت هذه القوى المسلّحة تتلقّى الدعم والمساعدات من الخارج، فلن تستجيب للضغوط الداخلية والخارجية. وهكذا تبقى المنطقة تدور في فراغ الصراع بين حقوق الشرعية وقوّة الميليشيات.
تخصّص مجلّة “إيكونوميست” الصفحة الأخيرة من كلّ عدد لسيرة أحد المشاهير لمناسبة وفاته. “صودف” أن خصّصت الصفحة في هذا العدد بالذات لتيري أندرسون الذي أسره الحزب واحتفظ به مدّة سبع سنوات لاقى خلالها كلّ أصناف القهر والحرمان. ولم يُطلق سراحه إلا بعد إبرام صفقة الأسلحة الأميركية مع إيران في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان. كان ذلك في الرابع من كانون الأول من عام 1991، أي بعدما قضى 2,454 يوماً في المعتقل.
ليست الصفقة هي الموضوع هنا. ولكنّ رواية أندرسون عن سنوات الاعتقال في معسكرات وسجون الحزب، التي تتضمّن تفاصيل إنسانية مؤلمة. وتنقل المجلّة عن أندرسون مثلاً قوله إنّه قضى فترات طويلة مكبّل اليدين ومعصوب العينين لا يعرف أين هو. ويقول إنّه كان يُنقل من مكان إلى آخر في تابوت مغلق كأنّه جثّة. وإنّه عاش طويلاً في الظلام (سنة ونصف سنة) لا يعرف الليل من النهار في زنزانة مغلقة لا تتّسع لاثنين.
في عام 1999 أقام دعوى أمام المحاكم الأميركية على إيران مطالباً بتعويض قدره مئة مليون دولار. ولكن لم يحصل من هذا التعويض إلّا على 26 مليون دولار فقط اقتُطعت من الأموال الإيرانية المجمّدة في الولايات المتحدة.
تربط رواية تيري أندرسون بين إيران والحزب من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية بتفاصيل دور القوى المسلّحة في لبنان.
ولكنّ الحزب الذي هو أكبر هذه القوى وأشدّها فعّالية لا ينكر أنّ ماله وسلاحه وتدريباته هي من إيران.. ولكن يؤكّد أنّ القرار بالشأن اللبناني له وحده، وليست لإيران علاقة به.
قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن كيف يمكن إقناع القوى اللبنانية الأخرى التي تحاول أن تحذو حذو الحزب تجهيزاً وتسلّحاً دون جدوى حتى الآن؟
محمد السماك