روسيا والصّين وإيران في “صّندوق” البيت الأبيض

4

إيمان شمص

«أساس ميديا»

مع احتدام السباق الرئاسي الأميركي، يخشى المسؤولون في واشنطن من تداعيات كبيرة للتأثير الأجنبي على الناخبين الأميركيين، لأنّه أصبح بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” أكثر تعقيداً وفاعليّة وتعقّبه أكثر صعوبة من عام 2016 حين تدخّلت روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية وبثّت رسائل تحريضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإثارة الغضب والانقسام، تميّزت بالوقاحة والأخطاء الإملائية والنحوية.

 وفقاً لما نقله التقرير عن مسؤولين أميركيّين في الاستخبارات والدفاع وشركات التكنولوجيا والباحثين الأكاديميين، صارت المعلومات المضلّلة من الخارج، وخاصة من روسيا والصين وإيران، تشكّل تهديداً مستداماً وخبيثاً، حيث تختبر الدول وتكرّر وتنشر تكتيكات أكثر دقّة بشكل متزايد، حيث إنّ القدرة على التأثير حتى على مجموعة صغيرة من الأميركيين قد تكون لها عواقب وخيمة على الانتخابات الرئاسية.

بحسب تقويمات للاستخبارات الأميركية، تدعم روسيا ترشيح الرئيس السابق دونالد ترامب، وتفضّل إيران منافسته كامالا هاريس، بينما لا تفضّل الصين أيّاً منهما. لكنّ الهدف العامّ لهذه الجهود لم يتغيّر: زرع الفتنة والفوضى على أمل تشويه سمعة الديمقراطية الأميركية في نظر العالم. ومع ذلك، يوضح تقرير “نيويورك تايمز”، الذي أعدّه صحافيون متخصّصون بتأثير وسائل التواصل الاجتماعي والمعلومات المضلّلة، أنّ نطاق تأثير المعلومات المضلّلة الأجنبية يتّسع ويتطوّر بشكل متزايد نتيجة عوامل عدّة أهمّها:

المعلومات المضلّلة أصبحت أكثر انتشاراً

عام 2016، كانت روسيا هي المهندس الرئيسي للمعلومات المضلّلة المتعلّقة بالانتخابات الأميركية. اليوم، تبذل إيران والصين جهوداً مماثلة للتأثير على السياسة الأميركية، وتنشر الدول الثلاث رسائلها المضلّلة عبر عشرات المنصّات، من المنتديات الصغيرة حيث يتحدّث الأميركيون عن الطقس المحلّي، إلى مجموعات الرسائل التي تجمعها المصالح المشتركة. وتتناقل الدول الثلاث إشارات فيما بينها، على الرغم من عدم وجود دليل على كونها تتعاون مباشرة بشأن الاستراتيجيات.

من روسيا، تنشر جحافل من الحسابات على منصّة “تلغرام” Telegram مقاطع فيديو ومقالات مثيرة للتحريض حول الانتخابات الرئاسية مرفقة بانتقادات لاذعة. ومن الصين، نشرت مئات الحسابات هذا الصيف رسائل لطلاب تؤجّج التوتّرات في الحرم الجامعي الأميركي بشأن الحرب في غزة. كما أنّ لكلّ من الدولتين حسابات على Gab “غاب”، وهي منصّة للتواصل الاجتماعي يفضّلها اليمين المتطرّف، تعمل على الترويج لنظريّات المؤامرة.

كما حاول عملاء روس دعم ترامب على موقع Reddit “ريديت” وفي المنتديات المفضّلة لدى اليمين المتطرّف، مستهدفين الناخبين في ستّ ولايات متأرجحة إلى جانب الأميركيين من أصل إسباني ولاعبي ألعاب الفيديو وغيرهم من الأشخاص الذين حدّدتهم روسيا على أنّهم “مؤيّدون محتملون لترامب”، وفقاً لوثائق داخلية كشفت عنها وزارة العدل في أيلول الماضي. ولنشر الانطباع بأنّ مصدر المحتوى المحافظ كان أميركياً، استخدمت إحدى الحملات المرتبطة بعملية التأثير الحكومي الصيني، والمعروفة باسم Spamouflage، حسابات باستخدام اسم Harlan على أربع منصّات: هي YouTube وX وInstagram وTikTok.

المحتوى أصبح أكثر استهدافاً

لا تستهدف المعلومات المضلّلة الجديدة التي تروّج لها الدول الأجنبية “الولايات المتأرجحة” فحسب، بل أيضاً دوائر انتخابية محدّدة داخلها، بالإضافة إلى مجموعات عرقية ودينية معيّنة فيها. وكلّما كان التضليل أكثر استهدافاً، زاد احتمال نجاحه، وفقاً لباحثين وأكاديميين درسوا حملات التأثير الجديدة. بحسب ميلاني سميث، مديرة الأبحاث في معهد الحوار الاستراتيجي، ومقرّه لندن: “كلّما تمّ تصميم المعلومات المضلّلة لجمهور معيّن بناءً على اهتماماته أو آرائه، أصبح أكثر فعّالية”.

بحسب التقرير، كرّست إيران، على وجه الخصوص، مواردها لحملات التضليل السرّية التي تهدف إلى جذب جماعات معيّنة. فالموقع الإلكتروني Not Our War “ليست حربنا” مثلاً، يستهدف جذب قدامى المحاربين العسكريين الأميركيين، من خلال نشر مقالات حول نقص الدعم لجنود الخدمة الفعلية الذين لديهم آراء معادية لأميركا. ومن بين المواقع الأخرى موقع Afro Majority “أفرو ماجوريتي”، الذي يستهدف الأميركيين السود، وموقع Savannah Time “سافانا تايم”، الذي سعى إلى التأثير على الناخبين المحافظين في ولاية جورجيا المتأرجحة.

في ميتشيغن، وهي ولاية متأرجحة أخرى، أنشأت إيران منفذاً إلكترونياً يسمّى Westland Sun “ويستلاند صن” للأميركيين العرب في ضواحي ديترويت. وفقاً لماكس ليسر، كبير المحلّلين في مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات: “يظهر استهداف إيران للسكّان العرب والمسلمين في ميتشيغن أنّ لديها فهماً دقيقاً للوضع السياسي في أميركا، وهي تتلاعب ببراعة لجذب فئة سكّانية رئيسية للتأثير على الانتخابات بطريقة مستهدفة”.

حذت الصين وروسيا نمطاً مماثلاً. إذ نشرت وسائل الإعلام الحكومية الصينية خلال هذا العام روايات مضلّلة باللغة الإسبانية عن المحكمة العليا، تداولها المستخدمون الناطقون بالإسبانية على “فيسبوك” و”يوتيوب” وفقاً لمنظمة Logically لمراقبة المعلومات المضلّلة عبر الإنترنت. وقال خبراء في مجال التضليل الصيني إنّ حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المزيّفة المرتبطة ببكين أصبحت أكثر إقناعاً وجاذبية، وأنّها تتضمّن الآن إشارات إلى الشخص المستهدف باعتباره أميركياً أو محارباً قديماً في الجيش.

الذّكاء الاصطناعيّ يعزّز هذا التّطوّر

عزّزت التطوّرات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي قدرة المعلومات المضلّلة، وهو ما سمح لوكلاء الدول الثلاث بإنشاء وبثّ حملاتهم بمزيد من الدقّة والكفاءة. وأفادت شركة OpenAI، التي استخدمت أداة ChatGPT الخاصة بها لنشر هذه التكنولوجيا، أنّها عطّلت هذا الشهر أكثر من 20 عملية أجنبية استخدمت منتجاتها بين شهريْ حزيران وأيلول، شملت جهود روسيا والصين وإيران ودول أخرى لإنشاء وملء مواقع “الويب” ونشر المعلومات المضلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى تحليل منشورات محدّدة والردّ عليها.

كما استخدمت الصين مجموعة أدوات متقدّمة تتضمّن ملفّات صوتية تمّ التلاعب بها بواسطة الذكاء الاصطناعي، واستطلاعات رأي ملفّقة للناخبين في الحملات في جميع أنحاء العالم. وخلال هذا العام، انتشر على تطبيق تيك توك مقطع فيديو مزيّف لعضو جمهوري في الكونغرس من ولاية فرجينيا، مصحوب بتعليق صيني يزعم كذباً أنّ السياسي كان يطالب بالتصويت لمنتقد من بكين سعى إلى رئاسة تايوان (وفاز بها لاحقاً).

تحديد المعلومات المضلّلة أصبح أكثر صعوبةً

أصبحت الدول الثلاث أفضل في إخفاء آثارها. في الشهر الماضي، تمّ فضح روسيا وهي تخفي محاولاتها للتأثير على الأميركيين من خلال دعمها سرّاً لمجموعة من المعلّقين الأميركيين المحافظين الذين يعملون من خلال Tenet Media، وهي منصّة رقمية تمّ إنشاؤها في ولاية تينيسي عام 2023، كانت تبدو كواجهة شرعية لنشر عشرات مقاطع الفيديو مع تعليقات سياسية حادّة ونظريات المؤامرة حول تزوير الانتخابات، وكوفيد-19، والمهاجرين وحرب روسيا مع أوكرانيا. حتى مجموعة المؤثّرين الذين حصلوا على أموال سرّية مقابل ظهورهم على هذه المنصّة قالوا إنّهم لم يعرفوا أنّ الأموال تأتي من روسيا.

شركات التّكنولوجيا لا تكافح التّضليل بشكل جدّيّ

توسّع نطاق معلومات التضليل الأجنبية حين تخلّت أكبر شركات التكنولوجيا العملاقة، بما في ذلك Meta وGoogle وOpen Al وMicrosoft، عن محاولاتها لتصنيف وإزالة التضليل منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ويعتبر مسؤولون في شركات التكنولوجيا أنّ “الافتقار إلى سياسة متماسكة بين شركات التكنولوجيا يجعل من المستحيل تشكيل جبهة موحّدة ضدّ التضليل الأجنبي”.

يقول ليسر من مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات إنّ “هذه المنصّات البديلة لا تتمتّع بنفس قدرة تعديل المحتوى وممارسات الثقة والسلامة القويّة التي من شأنها أن تخفّف من حدّة هذه الحملات. وحتى المنصّات الأكبر مثل X وFacebook وInstagram كانت محاصرة في لعبة Whack-a-Mole التي لا تنتهي، حيث أعاد عملاء الدول الأجنبية بناء حملات التأثير التي تمّت إزالتها بسرعة. وحين اكتشفت شركة Alethea، التي تتعقّب التهديدات عبر الإنترنت، أنّ حملة تضليل إيرانية استخدمت حسابات تحمل اسم طائر الهدهد الملوّن، عادت هذه الحملة أخيراً إلى الظهور على موقع X على الرغم من حظرها مرّتين من قبل”.

إيمان شمص

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.