جعجع باسيل فرنجيّة الجميّل… وقضيّة وطن!

83

بقلم جان عزيز

«أساس ميديا»

شهيرة جدّاً معادلةُ “مورفي الأوّل” عن الثالوث الماروني في أزمة الرئاسة.

كان ذلك سنة 1958. يومَ أرسلَ الرئيس الأميركي أيزنهاور موفدَه روبرت مورفي إلى بيروت، لاستطلاع حلٍّ رئاسي إبّان “الثورة”.

جالَ الرجلُ على المسؤولين كافّة. وبينهم البطريرك المعوشي في بكركي، والرئيس كميل شمعون في قصر القنطاري، الذي تحوّل يومَها حصناً عسكرياً في المواجهة، والجنرال فؤاد شهاب في قيادة الجيش.

بعدها، قيل إنّ مورفي وصف الثلاثة بمعادلة معبّرة جدّاً: “وجدتُ بطريركاً يتصرّف كرئيسِ جمهورية، ورئيسَ جمهورية يتصرّف كقائد جيش، وقائدَ جيشٍ يتصرّف كبطريرك”!

غداً يأتي إلى بيروت موفدٌ فاتيكانيّ. هو أمين سرّ الدولة، أو رئيس حكومتها فعليّاً، الكاردينال بييترو بارولين. ويسعى البعض على هامش زيارته ولمناسبتها، إلى جمع أقطاب الموارنة الأربعة معه ومع البطريرك الراعي… أربعة تغيّر فيهم بعض الأشياء. ولم يتغيّر فيهم الكثير. بعضهم يبدو متبادَلَ الأدوار. بعضٌ آخر يبدو ثابتاً فيها.

مشهديّة غريبة تثيرُ الأسئلة حولهم وحول احتمالات لقائهم، وعمّا قد يُكتب عنه وعنهم.

أوّل الأقطاب سمير جعجع. مقيمٌ هو في حصن حصين، في قلب كسروان. راكم مسيحياً حتى صار أكبر قوّة في شارعهم. لكنّه تراجع وطنيّاً حتى لم يعدْ له شريكٌ أساسي بين شركاء الوطن. فهو على نزاعٍ صداميّ مع “الثنائي”، وعلى أزمة مكتومة بالأسرار مع الحريري بكلّ متفرّعات فريقه، وعلى التباس دائم مع وليد جنبلاط كأنّه ما زال في دير القمر، أو كأنّ جنبلاط ما زال في ذكرى أربعين والده، على الرغم من الخطر الداهم على الاثنين بالعودة إلى “السجن الكبير” الذي رفضه الشهيد حتى قتله…

هكذا صار جعجع زعيم الكتلة الشعبية المسيحية الكبرى. لكنّها كتلة ممنوعة من الصرف، مسيحياً ووطنياً.

خصومه باتوا يتّهمونه بأنّه لم يعد مؤمناً بالنظام برمّته، لا برئاسة ولا رؤساء ولا حكومات ولا مؤسّسات، وينتظر لحظة سقوطه كاملاً. بعدها يفكّر في خياراته وهوامشها.

مناصروه يقولون إنّه سئم المناورات والبازارات. مدركٌ هو أنّ طموحه الشخصي تخطّته التطوّرات والظروف والأعوام. لذلك بات يكتفي ممّا بقي من عمرٍ ونضال بأن يكون الرجل الذي لم يتنازل.

هو شيء من ميشال عون بعدما صار الطائف الدولي أمراً واقعاً خريف 1989. أو هو هو نفسُه بعدما بات “الطائف السوري” قضية مقضيّة، بعد اغتيال رينيه معوض واجتياح الكويت.

يكتفي جعجع اليوم بقولة “لا”. بل لاءات كثيرة. بلا بدائل. بلا خارطة طريق. بلا ما كان هو نفسه يكرز به، من ثلاث إشكاليات ضرورية للبنيان النضالي: أن تُجيد التشخيص. ثمّ تُجيد اجتراح الحلّ. وثالثاً والأهمّ أن تبتدع القدرات والمقوّمات لتنفيذه!!

باسيل… والبقاء حيّاً في السّياسة

ثاني الأقطاب جبران باسيل، نيابةً عن ميشال عون ووراثةً له، كامل الإرث والميراث، بحصرهما وحصريّتهما.

يعيش على هاجس البقاء حيّاً في السياسة بعد الوراثة. مهجوسٌ لتحقيق تلك المهمّة المستحيلة، بجمع التناقضات والمتناقضين، حتى الانفساخ.

معه في فريقه إلى يساره، من يذوب توقاً للصلاة مع “السيّد” في القدس.

ومعه إلى يمينه، من يصلّي كلّ مساء ليختفي “حزب” السيّد عند الصباح. فيكون سلامٌ من بيروت حتى أورشليم القدس!

ويخشى باسيل الطرفين معاً. ويعبّر عن خوفه الدائم بتهديدهما المستدام. حتى بات مذعوراً من فرسان المتنَيْن الثلاثة: عون ابن الأخت، وكنعان الإشكاليّ عليه منذ عقدين، وبوصعب الشريك الدائم في أوقات الضيق والشدّة!

مرتعبٌ باسيل من لحظة غيابٍ كبرى. يلهث لتجنّبها. ذهب إلى نبيه برّي “يعتذرُ. لا تسأله ما الخبرُ”. من “البلطجيّ” الذي قرّر تكسير رأسِه، إلى “كبيرنا” والضمانة وصمام البقاء… كلّ ذلك ضمن صراع بقائه.

ذهب يفاوض المعارضة قبل أيّام. فهموا منه ما يشبه القول: “تعالوا نتآمر، إيجاباً، على الثنائي”.

نذهب إلى طاولة حوار برّي. وبرئاسته. نتداول شكليّاً. ثمّ “نُكوْلِسُ” على هامشها فعليّاً في الاستراحات. عندها ينقز “الحزب” من حركتنا. فهو يدرك أنْ ليس لديه 65 صوتاً.

فيهرع إلينا ويبلغنا تخلّيه عن سليمان فرنجية. فنفرض نحن “الخيار الثالث”.

قيل إنّه ذهب بعد المعارضة، بلغة مناقضة إلى “الحزب”. شيء ما يشبه “مؤامرة” مقابلة: أنا مستعدّ لكسر الموقف المعارض والمسيحي من أجلكم. أذهب إلى طاولة برّي. فأجرّهم كلّهم إليها. هناك، أنتم وأنا، ومعنا فرنجية إذا شاء، نفرض “خيارنا الثالث”.

الطرفان يعرفانه. لم يقبضه أيّ منهما. حتى اضطرّ في لقائه الأخير مع طوني فرنجية قبل أيام، إلى الكلام التبريريّ ساعة ونيّفاً. بلا نتيجة ولا خلاصة. إلا التنمّر رعباً من قائد الجيش!!

فرنجيّة: من أسقط “زملاءه” لمصلحة باسيل؟

ثالث الرباعيّ الماروني سليمان فرنجية. بعيدٌ هو أيضاً عن بيروت وناسها. ثابتٌ هو في إقامته الشمالية. كما في التموضع الذي وجد نفسه فيه، منذ ذلك اليوم المأساوي من حزيران 1978. منسجمٌ بذلك هو مع نفسه. مرتاحٌ إلى ما يسمّيه تبسيطاً واختزالاً فكريّاً: “خطّنا الوطني والعربي”.

هو مستمرّ في ترشيحه الرئاسي، بالاتّكال على موقف حليفَيه في “الثنائي” الشيعي، مع أنّه يدرك الكمّ الهائل من الملاحظات والثغر حيال هذا الموقف.

إذ يعرف فرنجية تماماً أنّ من يريدُ له أن يكون خلَفَ ميشال عون، لا يجلس، قبل نهاية ولاية الأخير بأشهر قليلة، متفرّجاً على ذبح حلفاء مرشّحه المفترض، انتخابياً ونيابياً وبالتالي رئاسياً في كلّ لبنان. كيف يكون فرنجية مرشّح “الثنائي” الجدّي والوحيد، ويُترك إيلي الفرزلي بصوته، وأسعد حردان بحزبه، ووئام وهاب وطلال إرسلان وسواهم، يُسقطون في النيابة قبل أشهر من الرئاسة؟!

وأمام من؟ ولمصلحة من؟ أمام تركيبات باسيليّة. ولمصلحة تكبير كتلة خصم فرنجية الأوّل، أي جبران باسيل، بودائع نيابية من “الحزب”!

يعرف فرنجية ذلك تماماً. كما يعرف معنى أن يقول “الحزب” بعد نهاية ولاية ميشال سليمان: كلّ من يريد بحث الرئاسة معنا، فليذهب إلى الرابية ويبحث مع الجنرال عون.

فيما “الحزب” نفسه الآن يستقبل أيّاً كان ويبحث الرئاسة مع أيّ كان.

لذلك أعلن فرنجية تمسّكه بترشّحه ليُسمعَ “الكنّة” في الضاحية قبل الجارتين في بشرّي والبترون!!

سامي: لا شيء يتغيّر في النّاس

يبقى قطب رابع. هو سامي الجميّل. هو شابٌّ مجاهدٌ مجتهد. تعلو وجهه علاماتُ المرارة، لا بسبب وراثة موقعه بعد سقوط أعزّ الأهل شهداء وحسب، بل لأنّه كمن يعيش إشكاليّة فهم وتفهُّم وتفاهم مع كلّ من حوله.

حاول سامي نقل حزب الكتائب من “صيغة” جدّه الطائفية، إلى رحاب الحزب الوطني. فلم يجد من يلاقيه من قوى الوطن الأساسية الأخرى.

خرج من الحكومة والسلطة إلى معارضة مبدئية كاملة. فلم يحتضنه أيّ معارض.

حتى التحق بالثورة والثوّار في 17 تشرين. فاعتبره هؤلاء دخيلاً متسلّقاً عن ظلمٍ له. أقنع نفسه بأنّ الناس ستفهم وستتجاوب. حتى جاءت انتخابات 2022 ليظهرَ حجمه هو هو، كأن لا شيء يغيِّر في أمزجة الناس، ولا وقائع تبدِّل في ميولها وقناعاتها.

هي المرارة المفهومة لليأس الممنوع أو القرف المحظور.

الأرجح أنّ محاولة جمع الأقطاب الأربعة في بكركي لمناسبة زيارة بارولين، لن تنجح.

وهذا أفضل لبكركي ولروما ولكلّ لبنان. فالأزمة الراهنة وطنية بامتياز، لا طائفية ولا مذهبية ولا فئوية.

ولا حلَّ لها إلا على صعيد وطني. تماماً كما فعل البطريرك صفير. المثلّث الرحمات؟؟ بل المستحقّ اليوم أكثر بكثير من ثلاث.

جان عزيز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.