تفلّت العصبيات في موسم تبادل اللكمات
عارف العبد
تعيش أغلب الأطراف المعنية والمنخرطة بالصراعات الدائرة، راهناً، حالة متقدمة ومتفاقمة من التوتر والحساسية والتصعيد. مما يوفر بيئة مناسبة لاستمرار تفاقم المشكلات الراهنة، على مختلف المستويات.. لدرجة غياب الضوابط والمكابح، التي يمكن أن تحد من تدهور الأوضاع الملتهبة. وفي هذا السياق، جاء كلام أو تهديد أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله إلى الجارة قبرص، من مغبة فتح مطاراتها للطيران الحربي الإسرائيلي، في أية مواجهة حربية مقبلة مع إسرائيل. ما فتح أزمة جديدة وليست سهلة مع الاتحاد الأوروبي، ربما لم يكن ينتظرها السيد نصرالله حين قرر إطلاق تحذيره وكلامه تجاه جزيرة قبرص.
في الواقع، فإن الجزيرة الجارة هي في وضعية تعاون دائم مع إسرائيل، من النواحي الأمنية واللوجستية. وهي لم تنف أنها تتعاون مع إسرائيل أمنياً أو عسكرياً، عبر المناورات العسكرية التي تجريها على أراضيها، محاكاة للحرب في لبنان. لكن كلام السيد نصرالله التحذيري، دفع بالمسؤولين في الجزيرة إلى التنبه ونكران النية في مساعدة إسرائيل أمنياً في المستقبل، في حالة اندلاع حرب مقبلة واسعة.
والظاهر، أن أغلب الأطراف كانت ولا تزال، تستعد لكل الاحتمالات بما فيهم قبرص وإسرائيل وحزب الله.
باختصار، أغلب الأطراف المحلية والإقليمية تضع أغلب اوراقها على الطاولة، وتدخلها في لعبة التنافس والمواجهة والصراع الدائر إلى آخر الحدود، وفي بعض الأحيان من دون ضوابط.
صحيح أن كلام السيد نصرالله، تجاه قبرص قد أطاح بما تبقى من هيبة وسمعة الدولة اللبنانية الهلامية والمنعدمة الوجودة، لتصبح في خبر كان. لكن الصحيح في المقابل، أن قبرص كانت على استعداد لمساعدة إسرائيل في حال اندلعت حرب واسعة مع لبنان.
الدليل على حساسية وخطورة كلام وتحذير نصرالله، تبدت عبر الرد البريطاني السريع على نصرالله ولبنان، عبر الكلام الذي نشرته مباشرة بعد واقعة التهديد جريدة التلغراف البريطانية. والظاهر أن بريطانيا، صاحبة القواعد العسكرية الأساسية في الجزيرة القبرصية، والتي اعتبرت نفسها مستهدفة بكلام نصرالله، سارعت إلى الرد الغليظ على لبنان ونصرالله، بإطلاق خبرية تخزين الصواريخ في مطار بيروت الدولي. وهي خبرية تشابه مقالب وخبريات مسرحيات (غوار الطوشة) المضحكة الفاقدة للخيال والإبداع المخابراتي.
وهي تعكس تدنياً في مستوى اللعب، الذي يفترض أن يكون متقناً، لكي تمر التمثيليات والألاعيب السياسية والدعائية، وتنطلي على الجمهور المتابع.
فهل من يصدق أن حزب الله «المصورخ» أو المتخم بالصواريخ، بحاجة لتخزين صواريخه في مطار بيروت الدولي ومخازنه وقاعاته؟!
التشويه والترهيب الذي استخدمه نصرالله تجاه قبرص وبريطانيا، بقواعدها في الجزيرة، ردت عليه بريطانيا بالطريقة الدراماتيكية الهزلية من قبل الصحيفة الإنكليزية.
ما من أحد بات يحترم عقول المشاهدين، والجمهور الحائر والضائع بين الطرفين المتواجهين.
الإسفاف وألعاب الخفة المرتجلة نفسها، انتقلت بسرعة من الدول إلى المنظمات ما تحت الدول، في لبنان، وتحديداً إلى الهيئات الروحية الإسلامية والمسيحية.
في الحقيقة، إن الكلام الذي صدر عن المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في رسالته إلى أمين سر دولة الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، فاق المتوقع والمعهود في عنف التهجم ولغة التخاطب، على دور الكنيسة المارونية والمسيحية بشكل عام. والتي وصفها بأوصاف قاسية وغير معهودة أو محتملة أو مقبولة. فقد وضع كلام المفتي الجعفري الكنيسة في موقع المتهم بالخيانة، والتآمر. وهو كلام غير معتاد وغير مقبول كلغة تخاطب بين مجموعات رئيسية تعيش في بقعة جغرافية واحدة، حتى لا نقول، في وطن واحد.
لكن في المقابل، فإن أحداً لم يجد تفسيراً منطقياً، أو مقنعاً، للكلام الخارج عن المألوف والمستغرب التوقيت أيضاً، الذي استخدمه البطريرك الراعي بحق المقاومة في الجنوب، وفي هذه اللحظة السياسية الصعبة والحساسة.
المنطق يقول إنه بما أن الكرسي الرسولي قد أوفد أحد أهم شخصياته إلى لبنان، للاستطلاع وبغية استكشاف إمكانية المساعدة، في الجمع والتقريب بين الأطراف.. فإن واجب الحكمة والحصافة كانت تقتضي أن لا يرمي بطريرك انطاكية وسائر المشرق عبارته المُولعة والمُشعلة والمشتعلة، عبر تشبيه المقاومة بالإرهاب في لبنان، والذي اعتبر أنه يزعزع المنطقة! مع العلم أنه لم يسبق له أن استخدم هذا التعبير أو المفهوم المكتشف عنده حديثا، ولم يكن مستخدماً في مواقفه وأدبياته أو خطبه.
إنه لموقف وسؤال محيّر فعلاً؟
هل كان البطريرك كلي الطوبة، يدرك ما سينتج عن هذه العبارة من رد فعل؟
والسؤال الذي يثور هنا، كيف دخلت هذه العبارة المُفجرة على نص العظة، في هذا التوقيت الحساس؟
هذه الواقعة التي حدثت تشابه تماماً واقعة قرارات حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في الخامس من أيار 2008، والتي تسببت بإشعال فتيل الانفجار الذي وقع يومها، قبل اجتياح حزب الله عسكرياً لبيروت والجبل.
صحيح أن ما قام به حزب الله مرفوض ومدان بطبيعة الحال، وهو بمثابة الجريمة المسجلة في خانته، لكن الحكمة كانت تقتضي عدم اتخاذ القرارات الحكومية آنذاك عبر الضغط على رئيسها من أطراف في 14 اذار، والتسبب بما جرى، وفتح الجرح الذي فتح.
الواقع يقول، إن مواقف وتصرفات حزب الله ومن معه من كتيبة المشايخ الأجلاء، قد أطاحوا راهناً، بأغلب أسس التفاهم اللبناني، عبر التفرد والاستهتار بأبسط قواعد الشراكة والتشاور مع الشركاء الآخرين، واحترام كيان الدولة التي تعني وتخص جميع الأطراف. لكن الكلام الذي صدر عن البطريرك في عظته ساهم بدوره، في إشعال فتيل «التلاسن» السياسي الطائفي والمذهبي البغيض وغير المقبول أو المطلوب في هذه الفترة الحساسة والخطيرة.
ألم يكن أفضل، لو أن الانتقاد البطريركي كان باتجاه وفي موضوع سياسي آخر؟
فهل من المقبول والطبيعي أن يرافق تفلت العصبيات راهناً، تفلت المواجهات واللكمات؟ أم أن لبنان بحاجة بعد لمزيد من الكوارث والصدمات؟
عارف العبد