بازار أميركيّ – إسرائيليّ لبيع الأوهام

36

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

“العالم سيكون أفضل بلا صدّام حسين”، عبارة ردّدها الأميركيون قبل غزوهم العراق، وحفظها الإسرائيليون ويردّدونها يومياً: “الشرق الأوسط سيكون أفضل بلا حماس والحزب، والعالم سيكون أفضل بلا النظام الإيراني”.  

 حدث في عام 2003 ما يحدث منذ تشرين الأول 2023 حتى اليوم. بازار أميركي إسرائيلي لبيع العالم الأوهام، يصفون فيه ما يحصل بأنّه “مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد”، وبأنّه ما هو إلا عملية تأسيس لنظام إقليمي جديد يوفّر الرخاء والازدهار لشعوب المنطقة والسلام بعد “استئصال أدوات الفتنة والتطرّف”، لكنّنا لم نحصد منذ ذلك الحين سوى الفوضى والدمار والخراب والتطرّف الإسرائيلي الأعمى الملفوف بالعلم والدعم الأميركيَّين الكاملين.

في الغرب، عمليات خداع دبلوماسي وتسويق إعلامي ساحق وجسور إمداد بالسلاح والمعلومات وأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجي للقتل والفتك، تغطّي جرائم إبادة إسرائيلية على أرض لبنان وفلسطين ترتكب بلا رفّة جفن. يبيعون الأنظمة العربية بضاعة يستسيغها البعض منها، وفيها أنّ الحرب الإسرائيلية ليست ضدّ العرب بل ضدّ إيران وأذرعها في المنطقة، وأنّ عشرات آلاف الضحايا المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين العرب ما هم إلا أضرار جانبية في معركة لا تستهدفهم. تقول إسرائيل إنّه في لبنان المعركة ليست ضدّ اللبنانيين بل ضدّ “الحزب” الشيعي، وفي غزة والضفة الغربية هي ليست ضدّ الفلسطينيين بل ضدّ “حماس” السنّية الإخوانية. هي ضدّ الشيعة في لبنان وضدّ السنّة في فلسطين! وفي التسويق الإسرائيلي يتعيّن أن تمثّل هاتان المعركتان والمعركة الكبرى الموعودة مع إيران مصلحةً مشتركةً مع بعض الأنظمة العربية التي تواجه مشكلة مع الحركات الجهادية الإسلامية وإيران.

ربّما بعض النخب الحاكمة في بعض العواصم العربية تأمل أن تنتهي جولة القتال بإزاحة الحزب وحماس والجهاد من المشهد السياسي في لبنان وفلسطين والإقليم، وإعادة النظام الإيراني إلى خلف حدود بلاده وتقزيم دوره الإقليمي وخلق المتاعب في داخله. لكنّ ذلك لن يحدث على الأرجح لأسباب عدّة، أوّلها أنّ العقائد ولو غاب عمل أهلها العسكري لا تُستأصل بالنار بل تكون المعارك بمنزلة معمودية لاستنهاضها من جديد، وثانيها أنّ القضايا التي قاتلت من أجلها، لا سيما القضية العادلة لفلسطين وأهلها، لن تجد حلولاً في ظلّ الاستعصاء السياسي والتجبّر الإسرائيليَّين والرفض المبرم لإعطاء الفلسطينيين الحدّ الأدنى من حقوقهم، وتالياً كلّما بقي الاحتلال وتمدّد وتغطرس، برزت مقاومة أشدّ عنفاً وتطرّفاً. وفي أيّ حال لا تزال حماس تقاتل طوال سنة كاملة في غزة على الرغم ممّا تعرّض له القطاع وأهله من ويلات ونكبات، و”الحزب” عاد ليشكّل مصدر القلق الأكبر للجبهة الداخلية في إسرائيل على الرغم من الضربات القاسية التي تعرّض لها، ولا سيما اغتيال قائده الرمز حسن نصرالله.

حماس هي حزب فلسطيني تعود جذور تأسيسه الإخوانية إلى ما قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران بعقود طويلة، ويمثّل شريحة من الشعب الفلسطيني في الداخل وفي المنافي، ولم تعد هزيمتها، إذا حصلت، هزيمة فردية لها بل صارت هزيمة للشعب الفلسطيني.

كذلك “الحزب”، فعلى الرغم من علاقته الخاصّة بطهران، هو حزبٌ لبناني واسع الانتشار ويحظى بتمثيل سياسي كبير. وإذا كانت شريحة واسعة من اللبنانيين ينتقدون انخراطه في حرب المساندة وجرّ لبنان إلى حرب شاملة، فلا يرى هؤلاء جميعاً في إسرائيل مخلّصاً لهم أو خشبة نجاة، بل يعتقدون أنّ هزيمته هي هزيمة لهم.

أمّا إيران فهي المستفيد الأوّل من خروج الدول العربية من المواجهة الحالية مع إسرائيل أيّاً كانت النتيجة، فذلك سيظهرها مظهر المدافع الأوّل عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وقد تدفعها المواجهة إلى تغيير عقيدتها النووية والإسراع في دخول نادي النوويّين الكبار، وهو ما يضع الأنظمة العربية المتردّدة بين خيارين: اللّحاق بطهران أو دخول ركب التطبيع غير المنتج الذي قد يحمل أيّ شيء ما عدا إعطاء الحقّ للفلسطينيين. ما عدا السعودية التي حسمت موقفها بأنّ لا تطبيع دون تنفيذ حلّ الدولتين.

إذا كانت إسرائيل وأميركا تعدان شعوب المنطقة بالرخاء الاقتصادي والاستقرار، فإنّ ذلك لن يكون إلا على حساب الفلسطينيين الذين لن ينعموا بدولتهم الخاصة على أرضهم، وسيتضافر المشروع الاستيطاني الإسرائيلي مع نتنياهو أو أيّ خلف له، مع ضغوط أميركية كبيرة على أيّة دولة عربية أو إسلامية ليس لمنع قيام الدولة الفلسطينية فقط بل ولمنع قيام دولة المواطنة الكاملة في بلدانهم عبر تشجيعهم على مقايضة شعوبهم: الاستقرار الأمني في مقابل الاستبداد السياسي. وهكذا سينزع التطبيع من أيدي الحكّام ورقة المزايدة على شعوبهم بتحرير فلسطين، وبسبب ذلك سيجري تأجيل استحقاقات بناء الدول الوطنية القائمة على المساواة والعدالة والحرّية وسيادة القانون. وهذا بدوره الوصفة المثالية لزرع بذور الانفجار داخل المجتمعات من جديد.

حروب إسرائيل وأميركا ووعودهما لم تجلب سوى الفوضى والفتن. سقوط حماس في غزة، إذا حصل، لن يمنح الفلسطينيين دولة ولا أماناً ولا استقراراً ولا ملجأ. سقوط “الحزب”، إذا حصل، لا يبني استراتيجية دفاعية ولا يلغي الطائفية في لبنان بل يؤجّج نارها ويزيد الاحتقان، ولن يحمي لبنان من الفساد بل يزيد طمع الفاسدين، ولن يعيد الأموال المنهوبة من اللبنانيين بل يزيد الفاقة بين فقرائه ويضمّ إليهم شرائح جديدة. ولن يجعل لبنان على الحياد إقليمياً بل يجرّه جرّاً إلى المدار الإسرائيلي.

إذا كان بعض الفلسطينيين يعتبرون أنّ حماس تعيق وحدتهم الداخلية وتجرّهم إلى خيارات تتجاوز قدراتهم فهم أولى بإيجاد الوسائل والسبل لحلّ هذه المشكلة ولو طال الزمن. وإذا كان بعض اللبنانيين يعتبرون الحزب يقف حائلاً دون قيام الدولة والمؤسّسات بعدما تجاوزها في خياراته السياسية فتلك أيضاً مشكلة داخلية يتعيّن على اللبنانيين حلّها فيما بينهم وعدم انتظار التدخّل الخارجي الذي لا يرى مصلحة لبنان واللبنانيين إلا من منظوره.

كلتا الحالتين بما تمثّلان، معطوفاً عليهما النفوذ الإيراني وإمساكه بالورقة الفلسطينية، ما كانتا لتصلا إلى ما وصلتا إليه اليوم من احتدام خانق لولا تجاهل النظام العربي فلسطين كقضية مركزية لها الأولوية على ما عداها.

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.