الحزب بين فتويَيْن: “تكتيك خامنئيّ” و”سُمّ الخُمينيّ”
بقلم ابراهيم ريحان
«أساس ميديا»
تُصرّ حكومة بنيامين نتنياهو على أنّ هدفها من الضّربات التي تشنّها على الحزبِ دفعه لوقفِ ما يُسمّيه “جبهة المُشاغلة والإسناد” تحت عنوان “إعادة سكّان الشّمال إلى المستوطنات”. لكنّ ضربة الضّاحية الجنوبيّة تؤكّد أنّ حكومة نتنياهو لا يوجَد على طاولتها ضوابط أو سقوف أو خطوط حمر في الجبهة اللبنانيّة. باتَ الحزبُ في الدّرجة الأولى بمواجهة معضلة سياسيّة تجعله أمام خيارات صعبة. إمّا أن يتلقّى الضربة القاسية تلوَ الأخرى، وإمّا أن يدخل في حربٍ شاملة لا تُبقي ولا تذر يضطرّ بعدها إلى تجرّع “كأس السّمّ” وفق وصف للإمام الخُميْنيّ عام 1988، وإمّا أن يعودَ إلى العقل البراغماتي الذي عبّر عنه الإمام علي خامنئيّ قبل أيّام بـ”التّراجع التكتيكيّ”.
لجأَ الإسرائيليّون إلى منحى تصاعديّ في العمليّات والضّربات التي تشنّها على البنية العسكريّة للحزبِ، وحتّى السّاعة لا تزال العمليّات العسكريّة في إطارِ ما يُسمّيه الإسرائيليّون بـ”الضّربات المُركّزة والمُحدّدة”، والتي تُشبِه ما اقترحه على نتنياهو مُستشار الأمن القوميّ الأميركيّ جيك سوليفان في ما عُرِفَ بـ”المرحلة الثّالثة” في الحربِ على غزّة مطلعَ العام الجاري، كبديلٍ عن الضّربات الإباديّة التي شنّها الاحتلال ضدّ أهالي قطاع غزّة.
يختلفُ المشهدُ في لبنان عن غزّة. وكذلك أهداف حكومة نتنياهو. في القطاع كانَ الهدفُ المُعلَن هو القضاء على حركة حماس، وهذا يتطلّب ضربُ بنيتها العسكريّة والأمنيّة وحتّى السّياسيّة كما حصلَ باغتيال إسماعيل هنيّة في طهران. أمّا بالنّسبة للحزبِ، فنتنياهو لم يُعلِن أنّ هدفه هو القضاء على الحزبِ، بل دفعه للقبول بفصلِ الجبهتيْن وإبرام اتفاقٍ مُنفصِل عن غزّة. وهذا ما أعلنَ الأمين العام للحزب رفضه رافعاً سقفَ التحدّي بعد 24 ساعة من واقعتَيْ “البيجر” و”اللاسلكي”، وقبل 24 ساعة من استهداف اجتماعٍ لقيادة قوّة الرّضوان في الضّاحية الجنوبيّة واغتيال قائد العمليّات إبراهيم عقيل.
هذا يدفعنا للسّؤال: هل نصرالله مُستعدٌّ للتّراجع؟
يبدو أنّ نصرالله حسمَ خياره بأنّه لن يوقِفَ “عمليّات المُساندة والإشغال” على الرغم من الضّربات الإسرائيليّة القاسية. لكنّه وإن كانَ مستعدّاً لذلكَ، فالتّوقيت غير مُناسبٍ له. وإن كانَت وصلته عدّة رسائل أميركيّة وغربيّة تقول إن أوقفتم فنحن نضغط على إسرائيل لتتوقّف، فهو يواجه حرباً غير مسبوقة، عنوانها حتّى السّاعة ليس احتلال جنوب لبنان، بل احتلال النّفوس، وهذا ما أشار إليه نصرالله الذي اعتبرَ واقعتَيْ “البيجر” و”اللاسلكي” جزءاً من الحربِ ضدّ بيئة الحزبِ وضربِ المعنويّات ودفعِ المُقاتلين والمناصرين على حدٍّ سواء للشّكّ في القدرات الأمنيّة والعسكريّة للحز
ما حصلَ في ضربةِ عصر الجُمعة لم يواجهه الحزب في تاريخه. إذ لم يسبِق أن استهدفت إسرائيل اجتماعاً لقيادات الحزبِ العسكريّة في قلبِ الضّاحية الجنوبيّة وفي وضح النّهار. وهذا إن دلّ على شيء، يدلّ على مستوى الاختراق الاستخباريّ للموساد والاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة في صفوف الحزبِ. فالمنطقُ يقول إنّ اجتماعاً على هذا المستوى من القيادات وعلى هذا المستوى من الأهميّة والسّرّية لا يُمكن أن يعلَمَ به عنصرٌ عاديّ أو أيّ مواطن أو مقيم. إذ إنّ الحزبَ اتخذّ إجراءات صارمة في الأيّام الأخيرة لجهة التّواصل بين قياديّيه ومسؤوليه. يؤكّدُ هذه النّظريّة ما نقله الإعلام الإسرائيليّ عن مسؤولين أمنيين وعسكريين قولهم إنّ تل أبيب علمَت بالاجتماع قبل وقتٍ قليل من انعقاده واتخذّت القرار بضربه بسرعةٍ.
كثيرة هي الأسباب التي أدّت إلى تنامي الاختراق في صفوف الحزبِ إلى هذا المستوى. وبعيداً عن حجمِ التّفوّق التكنولوجي والتّقنيّ الإسرائيليّ، فإنّ عمليّةً مثلَ هذه أو عمليّتيْ اغتيال فؤاد شُكر وصالح العاروري لا يُستغنى فيها عن العنصر البشريّ.
ما هي الأسباب التي أدّت إلى تنامي الخرق؟
ذكرُ الأسباب مهمّ من باب نقاشِ جدوى الاستمرار في حربٍ باتَ واضحاً أنّ لنتنياهو اليد الطّولى فيها حتّى السّاعة.
1- بعدِ حرب تمّوز 2006 عملَ الحزبُ على تطوير بنيته العسكريّة بشراً وعتاداً. وانتقلَ من كونه مجموعة مقاومة مُسلّحة إلى ما يُشبه هيكليّة الجيوش النّظاميّة. وتنامى عدد المُنتمين إلى الحزبِ كمقاتلين من بضعة آلاف في 2006، إلى عشرات الآلاف في يومنا هذا. وهذا يعني أنّ الجسمَ العسكريّ للحزب في 2024 باتَ يفوق بأضعاف ما كانَ عليه قبل 20 عاماً.
من المعروف في حركات التّحرّر والمُقاومة أنّه كلّما صغرَ الحجم البشريّ والبنية العسكريّة، كانت فرصُ الخرقِ أقلّ ومحدودة. والعكس تماماً يحصلُ مع كِبَرِ الحجم والبنية.
2- لم يعُد سرّاً أنّ انخراطَ الحزبِ في حروب المنطقة، وخصوصاً الحربِ السّوريّة، كشفَ الحزبَ أمام جيوش وأجهزة العالم بأسره. فعلى طولِ الجغرافيا السّوريّة التي باتت ملعباً دوليّاً لأعتى وأقوى الجيوش والأجهزة يوجَد آلاف العناصر الأجنبيّة وآلاف العناصر المُتعاونة مع جهات خارجيّة وفي مقدَّمها إسرائيل.
هذا عدا عن النّشاط العمليّاتيّ والاستخباريّ لدولِ “حلفِ النّاتو” من الولايات المُتحدة إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها.
كذلكَ باتَ مسؤولو الحزب الأساسيّون يجلسون مع الضّباط الإيرانيين والرّوس وقادة الفصائل العراقيّة والأفغانيّة والباكستانيّة واليمنيّة، وهذا يلعبُ دوراً أساسيّاً في تعقّبهم، خصوصاً أنّ ذروة الانتقال إلى طريقة العمل النّظاميّ كانت في الحرب السّوريّة التي لعِبَت فيها قوّة “الرّضوان” التي كان يقودها القياديّان إبراهيم عقيل ووسام الطّويل دوراً أساسيّاً في اقتحامِ المُدن والبلدات التي كانت تسيطرُ عليها المعارضة السّوريّة تحتَ نيران الطّائرات الرّوسيّة.
3- نشوة الانتصارات في سوريا والعراق في وقتٍ كانَت الأجهزة الإسرائيليّة والغربيّة تتعقّب نشاطَ الحزبِ هناك، أوصلَت قيادة الحزبِ إلى حالة “فائض القوّة”. فقد باتَ لدى القيادة السّياسيّة والعسكريّة شعور بالتّفوقِ نظراً لحجم الجغرافيا التي باتوا يسيطرون عليها، والخبرات التي اكتسبها المُقاتلون، والتقنيّات التي وصلَت إلى أيدي مقاتلي الحزب. لعبَت هذه الحالة دوراً أساسياً في ذلك، خصوصاً أنّ قيادة الحزبِ لم تكن تتوقّع حرباً مع إسرائيل قبل نهاية عام 2025.
إذ كانَ من المُقرّر أن يُنفِّذ المحور من لبنان وغزّة وسوريا والضّفّة الغربيّة عمليّةً مشتركة مُباغتة في نهاية 2025، لكنّ قرار زعيم حماس في غزّة يحيى السّنوار يومَ السّابع من تشرين الأوّل الماضي خلطَ أوراق الحزبِ، فدخلَ مُرغماً إلى حربٍ ليسَت على توقيته، وليسَت ضمنَ ظروفه، والأهمّ أنّه لم يكن ينوي مهاجمة إسرائيل وفي سدّة قيادتها السّياسيّة شخصيّة قويّة مثل بنيامين نتنياهو.
لا شكّ أنّ الحزبَ في مأزقٍ سياسيّ قبل الحديث عن أيّ مأزقٍ عسكريّ أو أمنيّ. فهوَ أمام خياراتٍ أحلاها مُرّ. فهو لا يرى أمامه مخرجاً واقعيّاً يدفعه للنّزول عن شجرة المُساندة والإشغال سوى وقف إطلاق النّار في غزّة، حيث يمكن القول إنّ العمليّات الأساسيّة انتهت منذ شهر أو أكثر. لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ غير مستعدٍّ لإعلان ذلكَ قبل إغلاق الجبهة مع لبنان لئلّا تُصبح نظريّة “وحدة السّاحات” التي وضع أسسها الجنرال قاسم سليماني في 2014 أمراً لازماً في سياسة المنطقة، بغضّ النّظر عن جدواها في حربِ غزّة.
أمّا الحزبُ فهو أيضاً ليس بوارد وقف النّار من جنوب لبنان، على الرغم من سهولة عنوانه، وهو تطبيق القرار 1701، إلّا بوقف النّار في غزّة، وتثبيت “وحدة السّاحات”. كذلكَ التّراجع في هذا التوقيت بالنّسبة للحزبِ مع ضربات الثّلاثاء والأربعاء والجمعة سيُعتبَرُ خسارة استراتيجيّة، وهو لن يقبَل بهذه الخسارة إلّا في حال وجدَ لنفسه مخرجاً سياسيّاً – عسكريّاً يُعيدُ نوعاً من الاعتبار لما فقده خلال الأيّام الماضية، بل على امتداد السّنة كلّها.
المُهمّ اليوم أن نسأل عمّن يمكنُه أن يُوفّر المخرجَ السّياسيّ اللائق؟
الجواب أنّ مرشد الثّورة الإيرانيّة علي خامنئي كانَ قد تحدَّث قبل أيّام عن “التراجع التكتيكيّ” أمام العدوّ. والإمام الخُميْنيّ أعلن تجرّعَ “كأس السّمّ” بسبب وقف الحربِ مع نظام صدّام حسيْن أواخر ثمانينيّات القرن الماضي. مما يضع الحزب اليومَ أمام خياريْن: إمّا التراجع التكتيكيّ على طريقة خامنئيّ قبل أن يأتي يوم قد تضطرّ فيه قيادة الحزبِ أن تتجرّع “كأس السّم” على طريقة الخُميْنيّ.
ابراهيم ريحان