بقلم أيمن جزيني
«أساس ميديا»
اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز.
اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية.
اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً من العمر، من العمر الحقيقي، ونكمل معه اللحن والأغنية.
اليوم صار عمرنا تسعين سنةً، أغنيةً تلو أغنية، وكلمةً إثر كلمة، ولحناً بعد لحن.
هي اسمنا منذ وُلدنا، وصفاتنا كلّها، ونشيد أناشيدنا.
هي الأمس واليوم والغد.
هي التاريخ والمستقبل.
هي اللون والصوت واللحن.
هي الجبل والسهل والبحر.
هي الشاطئ، وهي الأعماق، والبحار والمحار.
هي لا غير الـ10,452 كلم2.
هي الحرّية، الزهرة الناريّة والطفلة الوحشيّة.
حدودنا هي حدود صوتها. مدننا هي المدن الفيروزية: دمشق وبيروت والقدس، وبغداد والشعراء والصور… إلخ.
هي بلداننا: لبنان وسوريا ومصر… إلخ.
هي قرانا وجسورنا وقلاعنا وحصوننا.
هي الحبّ والشوق والفرح والحزن والغضب.
هي السلم والسلام، والأمن والأمان.
نشيد الصّباح اللّبنانيّ والعربيّ
نستيقظ على صوتها منذ ولادتنا، وعلى صوتها ننام، ومعه نحلم ونحلم ونحلم… حتى يصير الواقع.
في مثل هذا اليوم من كلّ عام، نشعل شمعةً إضافيةً ونضيء بجانبها عاماً كاملاً جديداً.
في مثل هذا اليوم من كلّ عام، نصغر سنةً من العمر، ونكبر سنوات من الألحان والأغاني والقصائد.
يكفي، ونحن في أقاصي الأرض، أن نستمع إليها تغنّي: “بحبّك يا لبنان”، لنعود إلى لبنان.
يكفي بعد كلّ حرب في أرضنا وعليها، وما أكثر حروبنا، أن نشعل صوتها لنعود ويعود لبنان إلى ما كنّا عليه قبل الحرب.
يكفي كي نطمئنّ نحن اللّبنانيين أن نعرف أنّ فيروز ستشرق صباحاً، وأنّها ستهدهد لنا ليلاً، فننام.
يكفي أن نستمع إليها كي ننسى، وكي نتذكّر. كي نفرح وكي نحزن. كي نتعلّم وكي نتمكّن. يكفي أن نستمع إليها كي نكون.
ترى من هي؟ من تكون؟ كيف تفعل بنا هذا كلّه؟ ما سرّها؟ ما سحرها؟
أشخص هي أم لون أم أغنية أم كلام ولحن؟
شخص أم وطن؟
أحقّاً في مثل هذا اليوم من كلّ عام تكبر سنةً؟ أهي حقّاً مثلاً تكبر وتهرم وتشيخ؟
لا. صوتها لا يقول هذا. قصّتنا معها كذلك الأمر.
أصلاً هي غير مرئية. نادراً ما نراها. نادرة أيضاً إطلالاتها. حتى حين كنّا نذهب إلى حفل للاستماع إليها كنّا نشاهدها بعيدةً، بعيدةً جداً بقدر ما هي حاضرة.
عصيّة على الزمن هي، وعلى السنوات والتقدّم في العمر.
فيروز لا تتقدّم إلّا فينا، وفي الأغنية واللحن. أمّا الزمن فلا يمرّ إلا بمحاذاتها. لا يعبر فيها الزمن. هي لون لا يبهت، وصوت يزداد طرباً وألقاً، ووطن يكبر ويكبر حتى يصل إلى حيث يصل صوتها.
صوت التّاريخ… ولحن الجغرافيا
أسطورة خارج الكتب. أسطورة حيّة تتنفّس وتتنقّل بيننا. أسطورة تعيش معنا وفينا، ونعيش معها وبها وفيها. بل نعيش لها. نستيقظ لا لشيء أهمّ من سماع صوتها، وننام لنرى أحلاماً فيروزيّةً لا غير. نرحل من صوتها إلى صوتها. يمرّ الزمن وتبقى هي كما هي تصدح بأعلى ما فينا، بينما نحبو نحن بين أغنياتها وألحانها والكلمات.
أمّ اللبنانيين جميعاً هي، وطفلتهم التي لا تكبر.
كلّما استمعنا إليها ازددنا “لبنانيّةً”.
من منّا يستمع إلى فيروز ولا يشعر بالسلام والأمان حتى في عزّ الحرب؟
من منّا يستمع إليها وتبقى همومه هموماً؟
من منّا يستمع إليها ولا يتخفّف من وطأة السنوات عليه؟
من منّا يميّز بينها وبين أفراد أسرته؟
من منّا يشعر بأنّها ولبنان ليسا صنوَين؟
من منّا يلفظ اسم لبنان دون أن ترتسم صورتها في باله، أو يستمع إليها فلا يكتمل الوطن في مخيّلته؟
من سار على آخر طريق المساء ولم يرَ شجرةً ليلكيّةً، منّا نحن الفيروزيّين؟
من لا يعرف منّا طريق النحل، وجسر اللوزية، وجسر القمر؟
من منّا لا يعرف وردة وعبده والملك وعطر الليل ومرسال المراسيل؟
هي التاريخ والجغرافيا. وهي الكلام كلّه والألحان كلّها.
أيمن جزيني