موفّق حرب
اساس ميديا
إنّه عام يشبه انتخابات أميركا الرئاسية، التي كلّ شيء فيها وارد. فقد شهد هذا العام أكبر عودة في التاريخ السياسي لرئيس بعدما وصل طالعه السياسي إلى أدنى حدود إثر إدانته في المحاكم الأميركية بتهم كثيرة. وشهد سقوط رئيس واحدة من أطول الديكتاتوريات الشرقية عمراً، بهروب بشار الأسد من سوريا.
ليس غريباً أن تختار مجلّة تايم الرئيس دونالد ترامب “رجل العام”، ولا تزال معظم المؤسّسات الإعلامية ومعاهد الدراسات تحلّل أسباب عودته وتأثيرها على الخارطة السياسية الداخلية بعدما نجح في توسيع القاعدة المؤيّدة له في صفوف الناخبين السود، اللاتينيين والعرب… وفاز في ولايات لطالما اعتُبرت حصوناً ديمقراطية.
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أحدثت زلزالاً سياسياً هائلاً. حملته الانتخابية غير المسبوقة، المليئة بالدراما والجدل والدعم الشعبي ومحاولات الاغتيال وانسحاب خصمه في الساعات الأخيرة، كانت استثنائية بكلّ المقاييس. ومع بدء ولايته الثانية، يواجه المشهدان المحلّي والدولي مرحلة من عدم اليقين والاضطراب لأنّ زلزال عودته يَعِدُ بهزّات ارتدادية ستشعر بها الأجيال المقبلة.
محارب… ضدّ “الدّولة العميقة”
جاءت عودة ترامب إلى البيت الأبيض بعد حملة انتخابية كسرت كلّ القواعد. من التجمّعات الجماهيرية المتواصلة إلى الجدل الواسع على وسائل التواصل الاجتماعي، قدّم ترامب أسلوباً صاخباً ألهب حماسة مؤيّديه وأثار معارضة شديدة. لم تكن الانتخابات منافسة سياسية وحسب، بل معركة أيديولوجية قدّم فيها ترامب نفسه محارباً ضدّ ما سمّاه “المؤسّسة الفاسدة” والدولة العميقة.
وجد هذا الخطاب صدى لدى ملايين الناخبين الذين يشعرون بالإحباط من السياسات التقليدية. اعتمدت حملته على استغلال الانقسامات الثقافية والمخاوف الاقتصادية، وهو ما جعلها أكثر إثارة من حيث الرمزية والهويّة الوطنية.
على الرغم من فوزه الكاسح في معظم الولايات التي توصف بـ”المتأرجحة”، تبدأ ولاية ترامب الثانية في ظلّ انقسام عميق في المجتمع الأميركي. الانقسامات السياسية والثقافية التي ميّزت فترته الأولى تعمّقت، وهو ما يمهّد الطريق لصراعات محتدمة داخل الكونغرس والشوارع والمحاكم.
انسداد تشريعيّ… واحتجاجات متزايدة
عزّزت إعادة انتخاب ترامب الانقسام بين “أميركا الحمراء” و”أميركا الزرقاء”. ستثير مواقفه جدلاً واسعاً الحادّة بشأن قضايا مثل الهجرة وحقوق السلاح والسياسات الاجتماعية. قد يزيد هذا الاستقطاب من تآكل الثقة بالمؤسّسات الديمقراطية، وهو ما يؤدّي إلى انسداد تشريعي واحتجاجات متزايدة.
تُتوقّع عودة سياسات ترامب الاقتصادية التي تركّز على “أميركا أوّلاً”، بما في ذلك تقليل القيود الضريبية والتنظيمية وتفضيل السياسات الحمائية. وفي حين قد تستفيد بعض الصناعات، يحذّر الخبراء من أنّ هذه السياسات قد تزيد من الفجوة الاقتصادية وتضغط على شبكة الأمان الاجتماعي. ومن المتوقّع أيضاً أن تظلّ سياساته التجارية مع الصين تصادمية، وهو ما سيخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق العالمية.
من المرجّح أن تكون قضايا مثل العلاقات العرقية وحقوق مجتمع المثليّين وحقوق الإجهاض في طليعة النقاش الوطني. خطاب ترامب وسياساته قد تحفّز مؤيّديه وتدفع المجموعات التقدّمية نحو مزيد من النشاط والمعارضة.
قد تتّسع قدرة ترامب على تشكيل السلطة القضائية، وهو ما يمهّد لتوازن قوى جديد في القضايا القانونية والدستورية الرئيسية. وهذا قد يترك أثراً طويل الأمد على حقوق التصويت والسياسات البيئية والحرّيات المدنية.
دوليّاً: إعادة هيكلة… مع الخصوم والحلفاء
على الساحة الدولية، لا شكّ أنّ عودة ترامب إلى المكتب البيضاوي ستهزّ صفو النظام الدولي. نهجه الأحاديّ في السياسة الخارجية قد يعيد صياغة علاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء.
رفضُ ترامب التعدّدية خلال ولايته الأولى عطّل المؤسّسات الدولية مثل الناتو والأمم المتحدة. من المتوقّع أن يستمرّ هذا النهج في ولايته الثانية مع احتمال انسحاب أو إعادة تفاوض بشأن الاتّفاقيات الرئيسية. وقد يُجبر الحلفاء على إعادة التفكير في اعتمادهم على الولايات المتحدة.
قد يتصاعد التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين بشكل أكبر تحت قيادة ترامب. قد تؤدّي مواقفه التصادمية بشأن التجارة والتكنولوجيا والقضايا العسكرية إلى منافسة على غرار الحرب الباردة، مع عواقب عالمية على حركة انتقال البضائع والأمن.
في الشرق الأوسط كانت سياسات ترامب في المنطقة تركّز على دعم إسرائيل وعزل إيران. قد تؤدّي عودته إلى إعادة تقويم المشاركة الأميركية في المنطقة، بما في ذلك احتمال سحب القوات وإعادة تشكيل التحالفات.
بيئة الكوكب ستتأثّر أيضاً
لن يقتصر تأثيره على الملفّات السياسية والاقتصادية، فشكوك ترامب بشأن تغيّر المناخ أثّرت بالفعل على الجهود البيئية العالمية. قد تشهد فترة ولايته الثانية مزيداً من تراجع الولايات المتحدة عن الاتفاقيات المناخية الدولية، وهو ما يهدّد التقدّم العالمي في هذا المجال.
من أكثر الأمور التي تثير المخاوف هي علاقته ببعض الشخصيّات الديكتاتورية. فالعلاقة المثيرة للجدل بين ترامب والقادة الاستبداديين أثارت مخاوف بشأن دور الولايات المتحدة في تعزيز الديمقراطية. وقد تشجّع عودته القادة الذين يتشاركون معه في تجاهل الأعراف الديمقراطية، وهو ما قد يعيد تشكيل الحوكمة العالمية.
تَعِدُ ولاية ترامب الثانية بأن تكون غير متوقّعة وعاصفة كما كانت ولايته الأولى. تجسّد عودته إلى السلطة قوّة جاذبية رسالته الشعبوية والانقسامات العميقة بين الناخبين الأميركيين. بالنسبة لأنصاره، تمثّل عودته انتصاراً على ما يرونه “مؤسّسة سياسية فاشلة”. أمّا بالنسبة لخصومه فهي سبب للقلق والتعبئة.
فراغ ستملؤه الصّين؟
على الصعيد المحلّي، يتوقّع دفعة أكثر قوّة نحو السياسات المحافظة واستمرار الاستقطاب. وعلى الصعيد الدولي، قد تتراجع الولايات المتحدة أكثر عن دورها التقليدي كقائد عالمي مع الاستمرار بالتهديد العسكري لكلّ من يهدّد المصالح الأميركية، وهو ما يترك فراغاً قد تملؤه قوى صاعدة مثل الصين أو جهات إقليمية.
إعادة انتخاب دونالد ترامب ليست حدثاً سياسياً وحسب، بل هي نقطة تحوّل ثقافية وعالمية. ستتردّد الهزّات الارتدادية لعودته في المجتمع الأميركي وعبر العالم، وهو ما يختبر مرونة المؤسّسات ويعيد تشكيل التحالفات ويضع الديمقراطية والحكم العالمي على المحكّ.
مع بدء هذا الفصل الجديد، يبقى شيء واحد مؤكّداً: العالم بأسره سيترقّب، سواء قادت فترة ترامب الثانية إلى قوّة متجدّدة أو انقسامات أعمق، فإنّ الرهانات على مستقبل الديمقراطية والاستقرار العالمي لم تكن يوماً أعلى.