المحامي أسامة العرب
في الوقت الذي يُفترض أن يشهد العالم تحركاً إنسانياً عاجلاً لوقف نزيف الدماء في غزة، تُكتشف أفظع جرائم القرن الحادي والعشرين عبر مشاهد تُجسّد وحشيةً لا تُوصف؛ فمع إحياء يوم الإضراب العالمي للتضامن مع القطاع المحاصر، تتواصل حملة الإبادة المنظمة التي تشنها قوات الاحتلال الصهيوني، مدعومةً بدعمٍ أمريكيٍ غير محدود، مُستهدفةً كل مظاهر الحياة في غزة، من البشر إلى البنى التحتية، في انتهاكٍ صارخٍ لكل المواثيق الدولية والأخلاق الإنسانية.
مأساة إنسانية: أرقامٌ تروي حكاية الدمار
منذ بداية الهجوم الشامل في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل قطاع غزة إلى ساحةٍ لتجارب عسكرية وحشية، حيث تجاوز عدد الضحايا عشرات آلاف الشهداء، جلّهم من الأطفال والنساء، وفقاً لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية؛ لكن الأرقام لا تكفي لسرد الفظائع: فخلف كل رقم قصةٌ عن طفلٍ تُرك بلا عائلة، أو عائلةٌ مُحيت من سجلات الوجود؛ وتُظهر لقطات مصورة نشرها ناشطون كيف تحوّلت شوارع غزة إلى ركامٍ من الجثث والمباني المدمرة، بينما تحاول فرق الإنقاذ اليائسة انتشال الناجين من تحت الأنقاض بأيدٍ عارية، بسبب شحّ المعدات.
استهداف ممنهج للبنى التحتية: من “القصف الذكي” إلى التدمير الشامل
لم تكتفِ آلة الحرب الإسرائيلية بقتل المدنيين فحسب، بل حوّلت القطاع إلى مختبرٍ لتدمير المنظومة الحياتية بكاملها، فبالإضافة إلى قصف المستشفيات كـ “الشفاء”، تم تدمير المئات منها والمراكز الطبية بشكل كلي أو جزئي، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، مما أدى إلى شلّ النظام الصحي في ذروة الأزمة. كما تعرضت مئات المدارس التابعة للأونروا للقصف، ناهيك عن تدمير شبكات المياه والكهرباء، مما خلق أزمةً بيئيةً تهدد بانتشار الأوبئة؛ وربما السلاح الأكثر فتكاً، هو سياسة التجويع الجماعي: فبعد حصارٍ استمر 17 عاماً، تشهد غزة نقصاً بنسبة 90% في المواد الغذائية الأساسية، وفق برنامج الأغذية العالمي، فمشاهد الطوابير الطويلة أمام المخابز التي تعمل بقوة الإرادة وقليل من الوقود المهرب، تُذكّر بمجاعات الحرب العالمية. وتُقدّر الأمم المتحدة أن 98% من سكان غزة لا يحصلون على مياه شرب آمنة، فيما يجتمع الأطفال أمام شاحنات المساعدات على الحدود، التي تُمنع من الدخول بحجج “أمنية” واهية.
جرائم حرب لا “حق الدفاع عن النفس”؟
إن الادعاء الإسرائيلي بـ “استهداف عناصر حماس” يتحطم أمام الوقائع: فمنذ بداية العدوان، تم توثيق آلاف عمليات القصفٍ ضد مناطق نزوحٍ أعلنتها إسرائيل نفسها “آمنة”، مثل مخيم جباليا ومدرسة الفاخورة، مما أسفر عن مذابح جماعية. كما كشفت تحقيقات دولية عن استخدام أسلحة مُحرمة، كالقنابل الحارقة والفوسفور الأبيض في مناطق مكتظة. وحتى سيارات الإسعاف لم تسلم: فقد سجلت مئات الحالات لاستهداف فرق إسعاف خلال محاولتها إنقاذ جرحى، مما أدى إلى استشهاد 1,200 طبيب وممرض، وفقاً لنقابة الأطباء الفلسطينيين.
صمتٌ دوليٌ مُريب وتواطؤٌ مُخجل
إن المجتمع الدولي، الذي تدافع دوله عن “القيم الإنسانية”، يقف عاجزاً أو متواطئاً. فحق النقض الأمريكي في مجلس الأمن أوقف عدة قرارات تدعو لوقف إطلاق النار الدائم، بينما تستمر واشنطن في تزويد إسرائيل بعشرات مليارات الدولارات سنوياً كمساعدات عسكرية، بالإضافة إلى شحنات أسلحةٍ طارئة خلال الحرب. أما الدول الأجنبية، فاكتفت بـ “إدانة خجولة”، بينما تتعزز علاقات بعضها مع إسرائيل عبر اتفاقيات تسليح مخجلة، تحوّلت إلى سيفٍ مُسلط على رقبة الفلسطينيين.
وإذا أردنا أن نتحدث عن يوم الإضراب العالمي للتضامن مع غزة يجب أن يتحول هذا التضامن إلى تدخل حقيقي وجاد من الدول العظمى والمجتمع الدولي للوقوف أمام مسؤولياتهم التاريخية والإنسانية، والعمل على وقف العربدة الصهيونية وممارساتها الوحشية واللا أخلاقية واللا إنسانية، وتمردها على كافة القرارات التي أصدرتها الشرعية الدولية، ومنعها عن المضي في سياسة تهويد الأراضي وانتهاك المقدسات وفرض الأمر الواقع، ومنعها من ارتكاب المجازر وجرائم الإبادة بحق المدنيين العزل في قطاع غزة من الأطفال والنساء، ومحاسبة قادة الاحتلال المجرمين، ووزرائه وضباطه الفاشيين، الذين أوغلوا في دماء الشعب الفلسطيني، ومارسوا بحقه أبشع عمليات القتل والإرهاب والتجويع التي عرفها التاريخ الحديث.
مستقبلٌ مظلم وتحدياتٌ غير مسبوقة
إن الأزمة الإنسانية في غزة ليست مؤقتة: فالأمم المتحدة تُحذر من أن إعادة الإعمار قد تستغرق عقوداً، خاصة مع تدمير 90% من البنى التحتية السكنية. لكن التحدي الأكبر هو الجرح النفسي لأطفال غزة، حيث تُقدّر منظمة “أنقذوا الأطفال” أن 95% منهم يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة؛ ومع استمرار الحصار، قد تشهد غزة هجرةً جماعيةً غير مسبوقة، وهو ما يُسميه محللون “التطهير الديمغرافي الممنهج”.
هل من بصيص أمل؟
في ظل عاصفة الدمار، يبقى الصمود الشعبي الفلسطيني شمعةً مضيئة؛ كتحركات المجتمع المدني العالمي، وكالمقاطعات الأكاديمية والاقتصادية (BDS)، التي تُشكل ضغطاً متزايداً، لكن الوقت ينفد: فكل دقيقة صمتٍ دولي تعني المزيد من الأرواح التي تُزهق. ويبقى السؤال الذي يُطارد الضمير العالمي الآن: هل ستُكتب هذه الصفحة من التاريخ كفصلٍ آخر من فصول الإبادة، أم كنقطة تحوّلٍ تُعيد للقانون الدولي هيبته؟
المحامي أسامة العرب