بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
انقضت الضربة الإسرائيلية لإيران من دون صورة تختصر ما حدث. لن يعوّض هذا الغياب صور الأقمار الصناعية التي نشرتها وكالة رويترز لبعض المواقع المستهدفة، قبل وبعد الضربة. وهي مواقع مهمّة تشمل 20 موقعاً عسكرياً حسّاساً في خوزستان وإيلام وطهران، وأنظمة الدفاع الجوّي التي تحمي مواقع حيوية مثل مطار الإمام الخميني الدولي في طهران، وقاعدة ملاد الصاروخية بالقرب من العاصمة، ومعامل بتروكيمياويّات ومصافي نفطية وحقل الغاز بيجار. كما طالت الضربات محطّات الرادار في عدّة محافظات بهدف تقويض قدرة إيران على الكشف عن الهجمات والتصدّي لها مستقبلاً. الأهمّ أنّ الهجوم الإسرائيلي شمل أيضاً منشآت لتصنيع الصواريخ، وتحديداً معامل خلط الوقود الصلب للصواريخ البالستية في موقع “بارشين” العسكري الضخم بالقرب من طهران.
مثل هذه الصور تعني المتخصّصين والباحثين، أكثر بكثير ممّا تعني لعبة صناعة الأساطير، ومخاطبة الرأي العامّ الذي ينتظر قوّة استعراضية بصريّة كتلك التي رافقت الهجمات الصاروخية الإيرانية الأخيرة مطلع الشهر على تل أبيب.
ولئن سبق لإسرائيل في شهر تموز الفائت أن قدّمت عبر قصف ميناء الحديدة، استعراضاً بصريّاً هائلاً، يُطرح السؤال اليوم لماذا قرّرت تل أبيب الآن أن تقدم على ضربة استراتيجية لكن هادئة. عندما ضُرب ميناء الحديدة قال رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنّه لا يوجد مكان “لن تصل إليه ذراعنا”، واعتبر وزير دفاعه يوآف غالانت أنّ “النيران المشتعلة حالياً في الحديدة يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والمغزى واضح”.
فما المغزى اليوم من الضّربة الهادئة؟
نجحت الإدارة الأميركية في دفع نتنياهو إلى تنفيذ ضربة جراحية دقيقة أصابت قلب الترسانة الاستراتيجية الإيرانية، من دون توجيه إهانة علنية للنظام الإيراني. فهمت إيران ما ينبغي أن تفهمه من خلال إبراز إسرائيل لكفاءتها العمليّاتية، وأدركت حجم ترهّل دفاعاتها الجوّية في مواجهة ضربة إسرائيلة دامت نحو 4 ساعات.
بالنسبة لواشنطن، يمكن لهذه الضربة، التي صمّمت بعناية، إن كان لجهة شكلها الهادئ، أو بتحييدها للمنشآت النووية والنفطية، أن توفّر لإيران فرصة النزول عن الشجرة من دون الشعور بالمهانة العلنية أو الإذلال الفاضح. قد يسمح لها ذلك بالذهاب نحو تسويات سياسية بدلاً من دوّامة الاستعراضات والاستعراضات المضادّة التي قد تدفع الأمور نحو حرب مفتوحة في الشرق الأوسط.
بطريقة غير مباشرة استفادت إسرائيل من هذا الأداء من خلال إبرازها أمام العالم أنّ هدفها الرئيسي هو تعطيل القدرات الاستراتيجية لإيران، والتأكيد على استراتيجيّات الردع الحاسمة لديها، وليس تصعيد الصراع العلني الذي بات يقلق غالبيّة حلفائها.
تحتاج إسرائيل، بعد كلّ النتائج التي حقّقتها، إلى درجة من ضبط النفس تسهم في خفض القلق العامّ حيال أداء حكومتها وجيشها، وتعزّز الثقة الدولية بأنّ تحرّكات نتنياهو محسوبة، دقيقة، وتحت السيطرة الكاملة.
عنتريّات إيران… وفاعليّة إسرائيل
علاوة على ذلك، فإنّ هذا التناقض بين الضربات الاستعراضية الإيرانية والضربات الإسرائيلية ذات الفاعلية الطويلة المدى، يسلّط الضوء على أنّ الأداء العسكري الإيراني الرديء هو مجرّد امتداد للعنتريّات الخطابيّة، ويعكس حاجتها إلى إظهار القوّة للحفاظ على المعنويّات الداخلية والنفوذ الإقليمي، في ظلّ تآكل قدراتها الدفاعية والهجومية. فالنهج الإسرائيلي الهادئ في الضربات الأخيرة على إيران لا ينطوي فقط على تظهير التفوّق العسكري الإسرائيلي الحاسم، بل يعدّ أيضاً تكتيكاً نفسيّاً يهدف إلى إظهار العروض العسكرية الإيرانية كمناورات جوفاء، تفشل في تحقيق نتائج ملموسة بينما تستنزف الموارد الشحيحة للإيرانيين.
لم يكن الهجوم الإسرائيلي الصامت على إيران مجرّد هجوم على منشأة صواريخ، بل كان تذكيراً هادئاً وقويّاً بقدرة إسرائيل على زعزعة دفاعات إيران، على نحو غير مسبوق منذ عام 1979، ومن دون الحاجة إلى إعلان حال الطوارئ في العالم. ومع اشتداد الصراع، تُبرز هذه المناورات حجم التفوّق الاستراتيجي الإسرائيلي، وحاجة إيران المتزايدة إلى تكييف تكتيكاتها مع واقع استراتيجي جديد، لم تعد تكفي فيه المشهديّة البصرية أو العنتريّات اللفظية.
نديم قطيش