هل قلتم “أيتام بشّار”؟!

بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
يوم انقسم البلد بعد اغتيال رفيق الحريري، كان في المشهد السياسي اللبناني فريقان جدّيان. واحدٌ مكوّن من معارضين حقيقيين للنظام السوري اللبناني البوليسي المشترك. بينهم من اغتيل ومن فُجّرَ ومن اضطُهد ومن لوحقَ ومن اعتُقل…
وفريقٌ ثانٍ مكوّنٌ من مؤمنين بعمق بأنّ خلف ما كان يحصل يومها استخداماً أميركياً، وربّما يكون إسرائيلياً، لتحقيق هيمنة استكبارية جديدة. وبالتالي لا بدّ من مواجهة تلك الهجمة بكلّ الوسائل المتاحة، مشروعة كانت أم لا.
كان الطرفان صادقين في اقتناعاتهما، منسجمين مع أنفسهما في الممارسة والسلوك.
لكن، وكما في كلّ حدث سياسي، كانت إلى جانب الفريقين زُمرٌ من انتهازيين وطفيليين. حاولوا استلحاق أنفسهم هنا أو هناك، بحسب قدرتهم على اللحاق والاستلحاق، متوزّعين بحسب استيعابهم لمتغيّرات القوى والموازين، خصوصاً ممّن عُرفوا طوال الحقبة السابقة بالصمت المطبق، في أحسن الأحوال.
يتامى “أبو عبدو”
إزاء هذا المشهد، وصفَ أحد ظرفاء السياسة المشهدَ يومها، بأنّه صراع بين يتامى أبو يعرب (غازي كنعان) ويتامى “أبو عبدو” (رستم غزالة).
تعودُ تلك الواقعة إلى الذاكرة بعد سقوط حاكم سوريا بشار الأسد في 8 كانون الأول الجاري، وبعد المواقف المتقابلة التي أعقبته، لا لأنّ السياقات مشابهة أو مطابقة، بل لمجرّد أنّ الشيء بالشيء يُذْكَر ويذَكّر.
مثلاً، يحقّ طبعاً لزعيم مثل سمير جعجع أن يحتفل بسقوط حاكم دمشق. فالرجل دفع ثمن سيطرة نظام بشار اللبناني – السوري، 11 عاماً من حياته سجناً قاسياً جدّاً جدّاً!
لكنّ حقّه الأكيد والمشروع هذا لا ينسحبُ حتماً على جميع المحتفلين معه، خصوصاً المزايدين عليه في الاحتفال.
تماماً كما يحقّ لقناة MTV أن تحتفل. وهي من اضطهِدت بقرار تعسّفي جائر شكّل تجسيداً لمفهوم القمع القضائي الذي ابتدعه نظام الاحتلال، باختراعات محلّية أو حتى بلديّة معروفة ومستمرّة حتى الآن، وبتصديق بعثيّ لئيم.
لكنّ الأمر نفسه لا يصحّ على آخرين ممّن زايدوا طبلاً وزمراً.
من يحسم الفرق بين هؤلاء؟
بكلّ بساطة، يكفي محرّك البحث “غوغل”. فمن ليست له فيه كلمةٌ واحدة، منذ 13 تشرين 1990 تاريخ اكتمال الاحتلال، حتى 26 نيسان 2005، تاريخ زواله، عن الأسد أباً أو ابناً، مقاومةً لهما، ولا رفضاً ولا اعتراضاً ولا انتقاداً ولا تحفّظاً ولا حتى إشارةً إلى ما كان برأيه احتلالاً أو هيمنة أو وصاية أو وجوداً أو حتى دوراً… فمن أين يكتسب اليوم حقّه بالاحتفال والمزايدة فيه؟! من دون حرمانه طبعاً حقّه بالفرح الداخلي العميق العميم!
لكنّ الأسوأ، تماماً كما في مزايدات أحداث عام 2005، أنّ بعض مزايدات اليوم يكاد يسقط في منزلقات خطرة، من نوع التلميح أو حتى التصريح بأنّ ثمة جماعة لبنانية كاملة باتت بالفعل والواقع مقطوعة الرأس نتيجة قطع رأس نظام الأسد.
بلغة أوضح، تذهب المزايدات إلى إيحاءٍ كامن، وكأنّ الشيعة في لبنان اليوم هم أيتام بشّار الأسد.
هذا كلامٌ أو همسٌ أو غمز لا صحّة فيه أوّلاً. ولا مصلحة ولا حكمة منه قطعاً. وهو سلوك يجب أن يتوقّف فوراً. أيّاً كانت أشكال التعبير عنه، بالمباشر أو بالمقنَّع المستتر، نظراً إلى مجافاته الحقيقة أوّلاً، وإلى خطورته على “اليوم التالي” في لبنان ثانياً.
غير أنّ هذه المشكلة لا تقف فقط عند الفريق المعادي لبشار في لبنان، بل تكمن أيضاً لدى بعض الآخرين.
بكلّ صراحة، نعم ثمّة في المقلب الثاني من يشعرُ ويفكّرُ ويتصرّف وكأنّه هو نفسه يتيمٌ من أيتام الحاكم المخلوع. وهو يحاول التغطية على ذلك بمزايدات مقابلة، أو الأخطر، بالتلطّي خلف عناوين مختلفة، لانتزاعِ ما ليس له، باسم وَهمِ حماية أو زَعمِ ضمانة، بدءاً برئيس الجمهورية المقبل!
المنطق المناقض للتّاريخ
هو أمرٌ مناقض للتاريخ والمنطق والحقّ.
مناقضٌ أوّلاً لفلسفة الإمام موسى الصدر في جوهرها حول الكيانية اللبنانية النهائية، التي صارت لاحقاً ميثاقاً وطائفاً ودستوراً.
مناقض ثانياً لفكرِ خلَفه الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في “وصاياه” لجماعته اللبنانية الأصيلة المؤسّسة. وهو من وقف بوجه منتظري، خليفة الخميني قبل عزله، وفي قلب مدينة قُم بالذات، معلناً له ولنظامه، أنّهم يرتكبون بحقّ الشيعة في لبنان وغير لبنان أفظع الأخطاء والخطايا.
هو مناقض ثالثاً لواقع النضال الشيعي التاريخي وتضحيات الشيعة الهائلة ضدّ كلّ هيمنة على لبنان. منذ كانوا حماة جبل عامل، حتى وصلوا إلى ثكنة فتح الله في قلب بيروت، حيث أثخنهم غازي كنعان قتلاً أسديّاً بعثيّاً، ليتمكّن من غزو عاصمتنا.
منذ اختفاء الإمام الصدر في أقبية حليف الأسد، إلى اختفاء حتى مناضلي “الحزب” في أقبيته مباشرة، مثل محمد نصرالله الذي روى السيّد حسن نصرالله بعد أعوام طويلة خضوعه للتعذيب في عنجر، مؤكّداً لمن نسي: “وما أدراكم ما التعذيب العنجريّ؟!”.
طبعاً ثمّة ماء كثير قد جرى بعد ذاك. واختلط بدم أكثر. حتى نسي كثيرون حقائق الأمور الأصيلة وعمقها الأوّل.
إلا أنّ الثابت المؤكّد، الذي لا لزوم حتى لقوله، أنّ الشيعة أبناء لبنان أوّلاً. حيث لا يُتمَ لأيٍّ كان. وإلّا فما الذي يفسّرُ أنّ إسرائيل ظلّت تتعقّب السيّد 32 عاماً، ولم تتمكّن منه، حتى أبلغ موافقته على وقف الصراع في الجنوب، يوم 25 أيلول الماضي، وعلى قاعدة “لبنان أوّلاً”. عندها، وخلال 48 ساعة فقط، اكتشفت إسرائيل مكانه ومكان كلّ من معه وكلّ من كان مثله!
ما هي خلاصة هذا الكلام؟
إنّه الوقت لوقف المزايدات من كلّ صوب، وأن يُقدم المتّهِمون والمهتمون من الطرفين على تلقّف الفرصة التاريخية الجديدة، بإعادة تجديد معنى الميثاق اللبناني الآن، ميثاق السيادة والنهائيّة، ميثاق العروبة والحرّية، ميثاق التوازن والحداثة، وميثاق انفتاح لبنان على أفق المدنية الكاملة والتنمية الشاملة.
ميثاق أن نعودَ كلّنا إلى لبنان، إلى حدود لبنان الجغرافية والفكرية والعَقَدية والانتمائية، وأن نعود إليه كلّنا مواطنين طبيعيّين.
تبدأُ مواطنيّتنا باحترام القوانين، كلّ القوانين، من قانون السير وقانون الملكية الخاصّة والعامّة وقانون البناء والتجارة والمحاسبة العمومية، بكلّ نبذةِ في فقرةٍ من بندٍ في مادّةٍ من قوانين لبنان كافّة، وصولاً إلى احترام الدستور والميثاق.
لنعِش معاً ونتقدّم معاً وننمُ معاً ونزدهر معاً. ولنقاوم معاً عبر الدولة وتحت سقفها أيّ عدوٍّ خارجي فعليّ، لا داخليٍ مفتعَلٍ أو وهميّ.
ماذا عن الخطوة الأولى لحلمٍ وطنيّ كهذا؟
رئيسٌ لا يشبهُ أيتامَ بشّار، ولا يشبه الطامعين بوصيّ خارجي جديد يتبنّى يُتمَهم السياسي وإفلاسَهم الفكري والأخلاقي.
الخطوة الأولى رئيسٌ لا يشبهُ إلّا لبنان.
تحت طائلة أن نصير كلّنا يتامى وطن.
جان عزيز

التعليقات (0)
إضافة تعليق