بقلم هشام عليوان
«اساس ميديا»
كان الأمين العامّ الراحل للحزب في أوّل خطاب له بعد “طوفان الأقصى” يحاول ضبط أعصابه قدر الإمكان، وضبط إيقاع حرب لم يُطلق العنان لها، فهو رفض بلطف دعوة محمد الضيف القائد العسكري لحماس إلى الانضمام لما اعتبره حرب التحرير. وهو حافظ على هدوء الجبهة مع إسرائيل منذ عام 2006، على الرغم من تكديس آلاف الصواريخ الذكيّ منها وغير الذكيّ. صحيح أنّ الخطاب الأيديولوجي كان عالي النبرة طوال تلك السنوات، لكنّ مصالح البيئة الحاضنة (الشيعية) لم تكن تسمح بمغامرات، ولبنان نفسه كان يعاني من أسوأ انهيار اقتصادي. والأهمّ أنّ إيران كانت تفاوض واشنطن على ملفّها النووي ورفع العقوبات، وليست بوارد خوض حروب. لكنّ إسرائيل كانت تخطّط منذ مدّة طويلة لاغتياله بوصفه مركز الثقل المعنوي في أقوى ميليشيا مسلّحة في تاريخ لبنان والمنطقة، تمهيداً لتغيير الشرق الأوسط. فهل كان يشعر بالخطر في الأسابيع الأخيرة التي سبقت غارة 27 أيلول الماضي أم خدعته إسرائيل؟
حتى 27 تموز الماضي كانت الضربات المتبادلة بين إسرائيل والحزب تجري وفق نمط معيّن وقواعد ثابتة تقريباً. وكان الحزب حريصاً على مراعاة القواعد التي رسمها لنفسه، مع مراقبة الجانب الإسرائيلي وردوده، بشكل حثيث، لمعالجة أيّ خروج عن النصّ، كاستهداف المدنيين اللبنانيين، وهي حوادث تكرّرت على مدى عام كامل، فكان يوجّه الحزب ضربة زائدة عن الحدّ، من حيث المدى الجغرافي أو النوع المستهدف، ثمّ تعود الأمور إلى سابق عهدها، مع التزام الحزب بضرب الأهداف العسكرية حصراً، لتجنّب الردود الإسرائيلية الهوجاء. لكنّ حدثاً مستغرباً وقع في بلدة مجدل شمس الدرزية في الجولان المحتلّ في 27 تموز ضرب كلّ المعادلة السابقة، حين سقط صاروخ على ملعب كرة قدم، فقتل 12 طفلاً. وهذا يخالف القواعد التي يتبعها الحزب بصرامة منذ 8 تشرين الأول 2023، فهو لا يستهدف المدنيين الإسرائيليين حتى بعد اغتيال الأمين العامّ، وقتل آلاف المدنيين اللبنانيين في كلّ مكان، فلماذا يقتل مدنيين سوريين تحت الاحتلال؟
يمكن الآن فهم أبعاد هذه المجزرة، لأنّها كانت الثغرة التي تسلّلت منها إسرائيل لتوجيه الضربة الكبرى بعد شهرين تماماً، حين اغتالت السيّد حسن نصرالله، بعدما وافق نتنياهو على هدنة 21 يوماً بوساطات دولية، وحين كان نتنياهو نفسه في الأمم المتحدة. كانت هذه خطّة خداع مركّبة ومعقّدة، لتحقيق هدف واحد، وهو القضاء على الحزب بضربة كبرى تنال من رأس الهرم، ثمّ تتوالى الضربات بسرعة باتّجاه القيادات التالية في الصفّ الأوّل، ثمّ الصفّ التالي، وهكذا حتى ينهار الجسم كلّه من دون قتال.
السردية الإسرائيلية
بحسب السردية الإسرائيلية، كان مسار الخداع في أحد جوانبه الأساسية يتعلّق برصد نمط تفكير العدوّ، وإحداث تغيير ضئيل لكن مؤثّر، بحيث يغيّر المعادلة كلّها. وفي هذا المضمار، يقول المحلّل في “يديعوت أحرونوت” يوسي يهوشواع، في مقال له تحت عنوان “كيف تفوّقت تكتيكات إسرائيل التدريجية على الحزب“، إنّ الخطّة الإسرائيلية كانت تقضي ببدء الحرب بهجوم قويّ، تليها مناورات برّية، وتنتهي في النهاية باتّفاق، كما كان يحدث في الجولات السابقة. هذه المرّة، تبنّت إسرائيل نهجاً أكثر دقّة، ودخلت الصراع تدريجياً واستراتيجياً، مستفيدة من معلومات استخبارية واسعة وقوّة نيران دقيقة.
كانت الخطوة الأولى هي الاستحواذ على زمام المبادرة مع اغتيال أرفع قيادي عسكري في الحزب في قلب الضاحية فؤاد شكر في 31 تموز الماضي. كان من المتوقّع حدوث ردّ انتقامي كبير، لكن جرى استباقه بضربة إسرائيلية ودفاع جوّي قويّ. ومن تلك اللحظة، اتّخذت إسرائيل قرار الانخراط في الحرب دون إعلان رسمي ودون السماح للخصم بإدراك المرحلة التي وصل إليها الصراع.
بعبارة أخرى، لتوضيح سردية الخداع الإسرائيلي، إن كان ممكناً قياس الصراع وفق سلّم درجات من واحد إلى عشرة، فقد كان الحزب يظنّ أنّ التصعيد الإسرائيلي باغتيال شكر هو طلوع فوق الدرجة 5، أي الاقتراب قليلاً من ذروة الخطر، وثمّة أمل بالنزول إلى ما تحت الحرب الحقيقية، بعد إطلاق ردّ انتقامي محسوب. لكنّ إسرائيل كانت ضمناً في الدرجة 6 وما فوق، قبل أربع خطوات تقريباً من اغتيال نصرالله. وبهذا المعنى، أشار اللواء عوديد باسيوك، رئيس مديرية العمليات، الذي واجه انتقادات في 7 أكتوبر من العام الماضي، لكنّه تولّى منذ ذلك الحين دوراً أساسياً في قيادة الحملة، إلى أنّه حتى في يوم اغتيال نصرالله، لم يدرك زعيم الحزب أنّ إسرائيل كانت في ذروة الحرب، وليس فقط في تصعيد آخر.
في 24 آب، بدأ الجيش الإسرائيلي بإضعاف قدرات الحزب على إطلاق الصواريخ، ليس فقط على طول الخطّ المؤدّي إلى نهر الليطاني، ولكن أيضاً في الشمال، ومن دون إعلان رسمي، فاستهدف سلاح الجوّ مواقع جمعتها الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية على مدى سنوات، بما في ذلك آلاف الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي يمكن أن تصل إلى حيفا. ومن المثير للدهشة بحسب مقال “يديعوت أحرونوت” أنّ نصرالله “حافظ على حدود الصراع”، على الرغم من خسارة جزء كبير من قوّته الناريّة. وانضباط الحزب بالقواعد أدّى إلى بروز فرصة عمليّاتية غير متوقّعة لتفعيل خطّة تتضمّن تفجير أجهزة اتّصال (البيجر واللاسلكي) كانت مخصّصة للضربة الافتتاحية لأيّ حرب مع الحزب. جرى تنفيذ هذه الخطّة بنجاح بالتعاون بين الجيش والموساد. ثمّ تحرّكت القوات الإسرائيلية لتصفية رئيس مديرية العمليات ورئيس الأركان بالنيابة، إبراهيم عقيل، إلى جانب اغتيال رأس وحدة النخبة في قوّة الرضوان، وقتل قادة الألوية عقب القضاء على قائدَي الفرقة أبي طالب وأبي نعمة في حزيران الماضي.
بعد أيام، قرّر نتنياهو اغتيال نصرالله. وكانت لدى الجيش الإسرائيلي القدرة على تنفيذ العملية، لكن لم يكن لديه الإذن قبل ذلك. كان اغتياله مهمّاً جداً بالنسبة للخطوات التالية من العملية، لأنّ نصرالله بخلاف السنوار يقود العمليات بنفسه، بحسب ما يقوله الإسرائيليون. ومن الملاحظ على هذا الصعيد أنّ الجيش الإسرائيلي عقب الاغتيال قام بأوسع عملية عسكرية في الضاحية الجنوبية لضرب مخزونات الأسلحة والبنية التصنيعية وأماكن وجود القيادات الحزبية والميدانية المتوسّطة التي كانت تعرفها الاستخبارات الإسرائيلية مسبقاً. بكلمة أخرى، لم تجرؤ إسرائيل على استباحة الضاحية دون خوف من الردود الصاروخية الانتقامية إلا بعد اغتيال السيّد. ثمّ بدأ ما تسمّيه إسرائيل المناورات البرّية في جنوب لبنان، بهدف تدمير البنية التحتية للحزب في القرى اللبنانية الحدودية.
ينقل المحلّل يوسي يهوشواع عن كبار قادة الجيش الإسرائيلي أنّه لم يبقَ إلّا القليل لإنجازه عسكرياً، وأنّ الوقت قد حان لاتفاق دبلوماسي بينما تكون لإسرائيل اليد العليا في الميدان، بدلاً من إطالة أمد القتال بلا هدف، والانجرار إلى حرب استنزاف. وهذا كلّه قبل العملية المفصليّة التي نفّذها مقاتلو الحزب، في 13 الشهر الجاري، ضدّ معسكر تدريب للواء غولاني في حيفا، بسرب من المسيّرات الانقضاضية، التي أوقعت إحداها 4 قتلى وعشرات الجرحى، وتبعها في الأيام التالية قصف بالصواريخ البالستية من عمق لبنان. فهل خُدع نصرالله كما قالت إسرائيل، أم أخطأ الجيش الإسرائيلي في تقديراته؟
وقت قاتل
تدلّ وقائع الصراع بتسلسلها الزمني أنّ كلّاً من الحزب وإسرائيل ارتكب أخطاء جسيمة أدّت إلى تحمّل الحزب خسائر غير مسبوقة منذ تأسيسه، وأوصلت إسرائيل إلى حالة عدم الحسم في الوقت الذي كانت فيه تستعجل حسم الأمور بسرعة في لبنان واستطراداً في غزة. والسبب الأساسي وراء الفشل الحالي هو إهمال الوقت المناسب للتصعيد أو اتّخاذ قرار الهجوم. فالحزب بحرصه الدائم على الجمع بين مستحيلين: إنقاذ غزة وتجنّب حرب حقيقية مع إسرائيل، وقع في فخّ القواعد الوهمية المرسومة في زمن آخر مختلف تماماً.
لكنّ نصرالله كان واعياً لكون تأخير طهران ردّها الانتقامي على اغتيال إسماعيل هنية يعطي إسرائيل انطباعات خاطئة بأنّ بمقدورها توسيع العدوان دون خشية من العواقب، وكان تقديره صحيحاً لهذه الناحية. أمّا إسرائيل التي أرادت تحقيق نصر نظيف دون التورّط في حرب برّية دامية، استذكاراً لما جرى عام 2006، وما يجري في غزة منذ أكثر من عام، فقد أضاعت فرصة الهجوم البرّي مباشرة عقب تفجير أجهزة الاتصال وما أحدثه من إرباك كبير في منظومة التحكّم والسيطرة. ثمّ بدأت هجوماً محدوداً جداً، عقب اغتيال نصرالله بثلاثة أيام، بدلاً من الانقضاض البرّي الواسع، في لحظة اختلال عاطفي خطير، بمعنى أنّهم صنعوا الفرصة ولم يستغلّوها، فضاعت عليهم. وعادت إسرائيل إلى خططها القديمة في لبنان: احتلال جزء من الجنوب، محاولة إشعال فتنة أهلية، والسعي لتركيب نظام سياسي جديد موالٍ لها.
هشام عليوان