المحامي د. أسامة العرب
لقد واجهت الفترة الانتقالية في السودان، منذ بدايتها الرسمية في آب 2019، تحديات وإشكاليات كبيرة، كان محورها الأساسي التناقضات في الرؤى والمواقف بين الشريكين، المدني والعسكري. وبلغت الخلافات ذروتَها في منتصف العام 2021، وانتهى الأمر بانقلاب عسكري في 25 تشرين الأول 2021 قاده الحلفاء العسكريون، قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «التدخل السريع» الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتمَّ تجميد الوثيقة الدستورية وإصدار مراسيم دستورية بديلة، وحل كل مؤسسات الدولة. ولم يحظَ الانقلابيون باعتراف إقليمي ودولي، بل حوصروا بمقاومة شعبية شرسة وعزلة كاملة، ولم يستطيعوا تشكيل حكومة. وتحت تأثير هذه الضغوط، قَبِل العسكر الجلوس إلى مائدة التفاوض مع المدنيين، ووجد التفاوض دعمًا إقليميًا ودوليًا، من دول إقليمية مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، ومن أطراف دولية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعثة الأمم المتحدة في السودان.
وقد استمر الحوار والتفاوض لفترة، وتم تتويجه بتوقيع الاتفاق الإطاري في الخامس من كانون الأول 2022، الذي يعدّ انتصارًا كبيرًا للجبهة المدنية، تمثل بقبول المكون العسكري الخروج من تشكيلات الجهاز السيادي والتنفيذي، كما نصَّ على وجود قوات مسلحة موحدة، وحل ودمج كل المجموعات المسلحة. كما وقّع على الاتفاق الإطاري رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وعدد كبير من أحزاب «الحرية والتغيير»، وقوى سياسية ونقابية انضمت للاتفاق؛ ولكن خلال الفترة التي أعقبت التوقيع على الاتفاق توترت العَلاقة بين البرهان وحميدتي، وبدأ التلاسن بينهما وعبر ممثلين لهما، وانتقل التلاسن إلى التعليقات على الاتفاق الإطاري والعملية السياسية التي تجري في البلاد، فبدأ حميدتي، حتى ولو من باب الكيد، في إبداء دعمه الكامل للاتفاق ولمشروع الوثيقة الدستورية المصاحبة، وإظهار حماسه لعملية التغيير والانتقال الديمقراطي، فيمَا بدأ البرهان يبدي تحفظات على الاتفاق والعملية السياسية، وظهرت إشارات متناقضة عبر ممثلين للقوات المسلحة، مقربة من مجموعات الإسلام السياسي، تظهر رفضًا كاملًا للاتفاق.
وبدا واضحًا في المحصلة، أنَّ الفريق البرهان ورفاقه في قيادة القوات المسلحة غير راغبين في المضي بالاتفاق الإطاري، وتزامن هذا مع زيادة التوتر بين الجيش و«الدعم السريع»، فانسحب ممثلو القوات المسلحة من جَلسة إعلان توصيات ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، لخلاف مع ممثلي «الدعم السريع»، وبعد أيام قليلة اندلع القتال في 15 نيسان الماضي.
كذلك، فإنه لا يخفى على أحد أن سبب الحقيقي للحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 نيسان 2023، هو نتيجة الخلاف على مشروع التسوية السياسية التي شاركت فيها قِوَى مدنية ودعمها المجتمع الدَّوْليّ، وبالتحديد نتيجة الخلاف على النص الوارد في الاتفاق الإطاري الذي ينص على دمج قوات الدعم السريع بالجيش وإجراء الإصلاحات في المنظومة العسكرية، وتسليم السلطة للمدنيين؛ مما، أدى إلى تصعيد التوترات بين الجيش والدعم السريع، ومن ثم إلى اندلاع الحرب بينهما.
وعلى هذا، مع مرور 15 شهرًا على اندلاع الحرب في السودان في نيسان من العام الماضي، وتصاعد تداعياتها الإنسانية والأمنية، تزداد التساؤلات حول إمكانية تحقيق وقف لإطلاق النار من خلال المباحثات الجارية في جنيف.
أولًا: المبادرات الفاشلة
على مدار العام الماضي، شهدت الساحة السودانية جهودًا متواصلة من قبل المجتمع الدَّوْليّ والمنظمات الإقليمية لمحاولة إنهاء النزاع، إلا أن جميعها باءت بالفشل. من أبرز هذه الجهود:
- هيئة «إيغاد»
كانت الأمم المتحدة والهيئة الحكومية للتنمية هيئة «إيغاد» أول من سارع لتبني مبادرة لإنهاء القتال، لكنها لم تحقق نجاحًا يذكر؛ حيث اقترحت المبادرة وقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات مباشرة في جوبا، لكنها لم تكتمل.
- وساطة جَدَّة:
في أيار، نجحت وساطة سعودية أمريكية في تنظيم مفاوضات غير مباشرة توصّلت إلى إعلان مبادئ في 11 أيار، لكن افتقار هذا الاتفاق إلى آليات المراقبة الفعالة أدى إلى فشل الالتزام به.
- المفاوضات السرية:
جرت مفاوضات سرية في كانون الثاني بمشاركة مصر والإمارات، وتوصلت إلى «وثيقة مبادئ وأسس الحل الشامل للأزمة السودانية»، لكن تسريب الاتفاق أدى إلى فشله
- مبادرات أخرى:
شملت الجهود أيضًا تحركات الاتحاد الإفريقي ومبادرات من دول الجوار السوداني مثل مصر، إلا أن هذه المحاولات لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة
ثانيًا: مفاوضات جنيف الحالية
تأتي مباحثات جنيف الأخيرة بقيادة الأمم المتحدة كأحدث محاولة لتحقيق وقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية؛ ولكن بداية هذه المفاوضات شهدت تعثرًا حيث لم يحضر سوى طرف واحد في اليوم الأول من المحادثات.
وقد قال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك في نيويورك، إن المحادثات في جنيف جاءت بناء على دعوة من مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان رمطان لعمامرة؛ وتابع دوجاريك «للأسف لم يحضر أحد الوفدين الجَلسة التي كانت مقررة الخميس. واجتمع (لعمامرة) وفريقه في وقت لاحق مع الوفد الآخر كما كان مزمعًا». وأضاف أن لعمامرة دعا الجانبين لمواصلة المحادثات غدًا الجمعة. ولم يفصح عن الطرف الذي لم يحضر المحادثات؛ وإنما أعرب دوجاريك أنه «يحث الوفود السودانية على الارتقاء إلى مستوى التحدي والانخراط في مناقشات بناءة مع (لعمامرة) من أجل الشعب السوداني».
أما المتحدثة باسم الأمم المتحدة في جنيف فأشارت إلى إن الأطراف ستتفاوض عبر لعمامرة بدلًا من الاجتماع وجهًا لوجه.
ثالثًا: التحديات والعوائق التي تواجه مفاوضات جنيف
هناك عدة عوامل تعيق تحقيق وقف لإطلاق النار في السودان:
- غياب الثقة:
إن الطرفين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يفتقران إلى الثقة المتبادلة، مما يجعل من الصعب الالتزام بأي اتفاقيات تم التوصل إليها.
- التدخلات الخارجية:
تتدخل قِوَى إقليمية ودولية بطرق تعقّد النزاع بدلًا من حلّه، حيث يدعم البعض الجيش في حين يدعم آخرون قوات الدعم السريع لأسباب مختلفة.
- المصالح المتناقضة:
تختلف مصالح القِوَى الداخلية والخارجية في السودان، مما يعقد الوصول إلى توافق شامل بين الأطراف المتصارعة.
رابعًا: الآمال والمخاوف من فشل مفاوضات جنيف
على الرغم من التحديات الكبيرة، يبقى هناك أمل في تحقيق تقدم إذا ما تضافرت الجهود الدولية والإقليمية بجدية، ذلك أن المجتمع الدَّوْليّ، وعلى رأسه الأمم المتحدة، يدركان أن استمرار النزاع سيؤدي إلى تداعيات كارثية ليس فقط على السودان بل على المنطقة بأسرها؛ لذا، قال المسؤول الأممي إن مناقشات لعمامرة «تسعى إلى تحديد سبل تعزيز المساعدات الإنسانية وإجراءات حماية المدنيين من خلال وقف إطلاق نار محتمل في مناطق، بناء على طلب مجلس الأمن»، فيما أقرّت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد الخميس الماضي أنه لا يوجد حلّ عسكري في السودان، وأن العالم يشهد الأثر المدمر لهذه الحرب بين جنرالين لا يهتمان بالمدنيين، ولهذا يتعين أن يكون الحل سياسيًا، وأن يتم التوصل إليه على طاولة المفاوضات.
في النهاية، تبقى مسألة وقف إطلاق النار في السودان رهينة لتوفر الإرادة السياسية الحقيقية من قبل الأطراف المتنازعة، ودعم جاد ومستمر من المجتمع الدَّوْليّ لضمان تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه. بناءً عليه، فإن مباحثات جنيف قد تكون خطوة نحو الحل، ولكن نجاحها يعتمد على مدى استعداد الأطراف لتقديم تنازلات والالتزام بالاتفاقيات الموقعة. ولكننا نرى بأن مفاوضات جنيف لن تثمر حاليًا لعدم وجود اهتمام أميركي حقيقي سوى بالانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، وبالحربين الروسية- الأوكرانية، والإسرائيلية- الفلسطينية، ناهيك عن وجود صراع إقليمي خفيّ على السودان، ومكاسب يسعى كل فريق لتحقيقها على حساب الشعب السوداني الفقير والمظلوم.
المحامي أسامة العرب