بقلم خيرالله خيرالله
أجريت يوم الخميس الانتخابات البريطانية التي كانت نتيجتها معروفة سلفا. حملت الإنتخابات حزب العمال بقيادة كير ستارمر إلى السلطة بعد 14 عاما من حكم المحافظين. سيكون ستارمر (61 عاما) رئيس الوزراء المقبل، وهو محام هادئ أعاد حزبه إلى الواجهة بعدما جعله حزبا وسطيا بدل أن يكون يساريا… أي بعبعا لمعظم الناخبين البريطانيين.
السؤال الذي طرحته نتيجة الانتخابات: ماذا يستطيع الخاسر الأكبر، حزب الحافظين البريطاني، عمله بعد الهزيمة الساحقة الماحقة التي لحقت به. هذه هزيمة تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ هذا الحزب البريطاني الذي تأسس في العام 1834، أي منذ 190 عاما بالتمام والكمال. لعب الحزب دورا أساسيا في كلّ المراحل والتحولات التي مرت فيها الإمبراطورية البريطانية في القرنين التاسع عشر والعشرين قبل أن تصل إلى ما عليه الآن من تراجع مخيف. هل الهزيمة الانتخابية نهاية للمحافظين الذين لم يخرج من صفوفهم من هو قادر على ممارسة أي دور على الصعيد الوطني منذ سنوات عدّة؟
لا شكّ أن إحتمال الوصول إلى مرحلة لا يعود فيها وجود لحزب المحافظين أمر وارد. يمكن لنتيجة الإنتخابات أن تشكل ذروة هذا التراجع البريطاني الذي في أساسه رفض السياسيين، من كلّ الإتجاهات، الإعتراف بالواقع والتعاطي معه من جهة والسعي الدائم إلى الهروب منه من جهة أخرى.
راهن زعيم حزب المحافظين ريشي سوناك على تقديم موعد الانتخابات. كان في استطاعته إنتظار الخريف المقبل، نظرا إلى أن القوانين المعمول بها تسمح له بذلك. لكن سوناك فاجأ البريطانيين بقراره العجيب الغريب الذي ربما كان يعتقد أنّه سيخلق بلبلة في أوساط حزب العمال المنافس. كانت النتيجة أنّ حزب العمال حقّق أكثرية كبيرة هي الأولى من نوعها منذ ثمانين عاما. زاد عدد نواب حزب العمال 209 نواب، فيما خسر المحافظون نحو 240 مقعدا. يضمّ مجلس العموم (البرلمان) 650 عضوا. هناك أحزاب أخرى غير المحافظين والعمّال ممثلة فيه.
ستكون للعمال سيطرة كاملة على مجلس العموم في السنوات الأربع المقبلة. لا يخيف ذلك المواطن البريطاني العادي الذي يعرف أنّه لن تحصل تغييرات كبيرة في ضوء تحول العمال إلى الوسط بعيدا عن مغامرات الجناح اليساري الذي استفاد منه المحافظون إلى حد كبير في السنوات الماضية. كان ذلك الجناح بزعامة جيمس كوربن الذي أبعده ستارمر عن الواجهة مع غيره من المتطرفين الذي كان يخشى البريطانيون، في أكثريتهم، وصولهم إلى 10 داوننغ ستريت (مقرّ رئيس الوزراء في لندن).
على هامش نتيجة الانتخابات البريطانيّة يمكن إيراد ملاحظتين أساسيتين. الأولى أن بريطانيا تفتقد حاليا لقياديين حقيقيين يمتلكون مشروعا إصلاحيا قابلا للحياة على صعيد المملكة كلّها. لا وجود لأي وجه قيادي لدى المحافظين، كما يستبعد أن يكون رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر سياسيا ذا شأن عند العمال أو على الصعيد الوطني، اللهمّ إلّا إذا حصلت معجزة وتغيّر الرجل الذي يتميز بأنّه شخصية باهتة.
أمّا الملاحظة الثانية، فهي أن حزبي المحافظين والعمال يتجنبان أي بحث جدّي في كيفية إستعادة بريطانيا لدورها، خصوصا في محيطها الأوروبي. يظلّ أبرز دليل على ذلك تفادي الحزبين إثارة ما يمكن إعتباره جوانب الكارثة الأهمّ التي حلت ببريطانيا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. إسم هذه الكارثة «بريكسيت»، أي الإستفتاء الذي أجري في حزيران – يونيو 2016 واسفر عن خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي.
كان غياب الكلام عن «بريكسيت» أكثر ما ميّز الحملة الإنتخابية القصيرة التي سبقت الانتخابات. لا يوجد في بريطانيا من يريد الإعتراف بأن تلك الخطوة التي وقفت وراءها حكومة ديفيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين وقتذاك، أدت إلى كارثة تعاني منها المملكة المتحدة إلى يومنا هذا. خسرت بريطانيا أوروبيا ولم تجد لنفسها مكانا على الساحة الدولية. خسرت عمليا على جبهتين متجاهلة أن الشمس غابت بالفعل عن الإمبراطورية منذ استقلال الهند في العام 1949 ثم الانسحاب من الخليج أواخر ستينات القرن الماضي…
يظلّ الأهمّ من ذلك كلّه أن بريطانيا، في ضوء «بريكسيت» خسرت داخليا بعدما فقدت لندن جانبا أساسيا من دورها بصفة كونها أحد أهمّ المراكز المالية العالمية. استحوذت العاصمة البريطانيّة على هذا الدور بفضل المرأة الحديد التي اسمها مارغريت تاتشر. هل كانت تاتشر آخر رئيس حقيقي وجدي للوزراء في بريطانيا وأنّ التدهور بدأ ساعة مغادرتها 10 داوننغ ستريت الذي بقيت فيه بين 1979 و 1990؟
أعادت تاتشر بناء بريطانيا من داخل. حولتها إلى دولة حديثة بعيدة كلّ البعد عن الأفكار الإشتراكية ونفوذ نقابات العمال. فهمت العالم وما يدور في العالم وصار لها تأثير في واشنطن. تعاطت مع أوروبا بما يخدم مصالح المملكة المتحدة من دون التهديد بالخروج منها.
هل تعود التاتشرية يوما حتى يصبح ممكنا الكلام عن عودة لحزب المحافظين ودوره في يوم من الأيّام؟
خيرالله خيرالله