بقلم محمد بركات
«أساس ميديا»
لطالما كانت النهايات اختصاراً مكثّفاً للبدايات والخيارات التي يتّخذها كلّ واحدٍ منّا، خصوصاً نهايات الأشخاص الاستثنائيين. أولئك الذين يسرقون الأضواء، أو تسرقهم. كأن “ينتهي” مايكل شوماخر وهو يقود سيّارة السباق التي صنعت مجدَهُ. وأن يموت جمال عبد الناصر مختنقاً دمُه بكلّ الضغوط التي عاشها بعد هزيمة 1967. وأن يموت يحيى السنوار في مواجهة طائرة مسيّرة يقودها الذكاء الاصطناعي… يقودنا هذا إلى سؤال أكبر: هل انتهت الحرب بإعلان هذا الانتصار؟ هل بات من المستحيل على مقاتلين “بدائيين” أن يواجهوا جيشاً يساعده، وربّما يقوده، الـAI؟
هكذا صوّرت طائرةٌ مسيّرة قائد حركة حماس يحيى السنوار في لحظاته الأخيرة:
رجل يجلس متهالكاً على كنبة. يملؤه الغبار. وجهه مغطّى بكوفية لا تظهر إلا عينيه المُتعبَتين. يدهُ اليمنى مقطوعة. يحمل باليسرى عصاً. غير قادرٍ على الوقوف. دخلت طائرة مسيّرة من جدار المنزل بطريقة سينمائية. متوثّبة ومليئة بالحياة، أمام الرجل الذي سيصير جثّة بعد قليل. وقفت على مسافةٍ منه، من فوق، في دلالة سينمائية على القوّة. راح الرجل اليائس يهوّش بعصاه على الطائرة. تأكّدت الطائرة من أنّه يتحرّك. وجمعت داتا كافية لتجعلها تتحرّك بعيداً عنه حين حاول إصابتها بالعصا. وغادرت الموقع لتأمر الدبّابة المتمركزة في الخارج بالقصف على إحداثية محدّدة. قصفت الدبابة. “تمّ تحييد الهدف”. هكذا وببساطة.
العصا مقابل الذكاء الاصطناعي.
أيّ صورة يمكن أن تكون معبّرة ومكثّفة أكثر من هذه؟
رجلٌ ينتمي إلى مجموعة بشرية راكمت الصواريخ والقذائف طوال سنوات، يواجه آلة يقودها الذكاء الاصطناعي. تملكها مجموعة بشرية “مجرمة” تُعتبرُ الخامسة من حيث التفوّق التكنولوجي على مستوى العالم، بحسب “بلومبيرغ”، منذ 2019، والسابعة في 2021. وفي 2022 صنّفت في المرتبة الـ16 عالمياً من حيث نسبة المقالات العلمية المنشورة فيها، بحسب مؤشّر “نايتشر إندكس”. ووفقاً لتقرير الـ”يونيسكو” عام 2016، “بلغ عدد العلماء والفنّيين في إسرائيل 140 عالماً وفنّياً لكلّ 10 آلاف موظف، وهي واحدة من أعلى النسب في العالم. بالمقارنة، كان هناك 85 لكلّ 10 آلاف في الولايات المتحدة، و83 في اليابان”. (المصدر: مجلة المجلّة).
هكذا كانت المجزرة تتحضّر. فريق يخوض السباق العلمي. وفريق يوظّف كلّ الأموال التي وصلته من أجل حفر الأنفاق ومراكمة الصواريخ وصناعة الأسلحة المتوسّطة والثقيلة.
راكمت إيران الصواريخ مع حلفائها، كمن يحسّن السيوف، ويطوّرها، غير عارفٍ أنّ المعركة الآتية سيحسمها المدفع والبارود. والصواريخ كانت سيوف إيران وحلفائها المساكين، أمام جيوش الذكاء الاصطناعي التي كانت إسرائيل تحضّرها. تجمع الداتا. وتطوّر “إنجيل غزّة“. وكم هي معبّرة التسمية: “إنجيل غزّة” الإسرائيلي، في مواجهة مجموعة متطرّفة إسلاميّاً.
الدقائق الأخيرة: الـAI يحسم ويقتل
من شاهد الفيديو الأخير ليحيى السنوار، وقرأ البيانات الصادرة عن إسرائيل وإعلامها وجيشها، سيكون سهلاً عليه رسم المشهد الآتي:
– اشتبه جنودٌ بحركة في أحد المنازل. فحاصروه واشتبكوا مع 4 مقاتلين داخله.
– ثمّ انفصلت القوّة إلى منزلين، ثلاثة في منزل، وواحد في منزل آخر.
– قصفوا المنزلين. واستدعوا طائرة مسيّرة لتكشف على الأهداف.
– تبيّن أنّ المقاتل ما زال حيّاً. وأعطتهم الطائرة إحداثيّته داخل المنزل.
– أطلقت الدبّابة قذيفة مدفعية بناءً على إحداثية الطائرة المسيّرة. وليس بناءً على تقدير بشريّ.
– القذيفة قتلت الرجل. ثمّ دخل الجنود وكشفوا على الجثّة. وكما يظهر فإنّ المنزل لم يتهدّم بالكامل. كانت القوة النارية محدودة وموجّهة لقتل رجل واحد.
لكن ما هو “إنجيل غزّة”؟
نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية، في كانون الأوّل الماضي، بعد شهرين من 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، تقريراً عن “إنجيل غزّة”. وهو برنامج ذكاء اصطناعي رفع وتيرة العمليات العسكرية في غزّة من 50 سنوياً، إلى 100 يومياً، يتمّ تنفيذ نصفها.
“نجهّز الأهداف آليّاً ونعمل وفق قائمة مرجعية. إنّه حقّاً مثل المصنع. نعمل بسرعة وليس هناك وقت للتعمّق في كلّ هدف. ويتمّ الحكم علينا بناءً على عدد الأهداف التي نجحنا في تحقيقها”. هذا ما يقوله لـ”الغارديان” مصدر عمل سابقاً في قسم الأهداف الإسرائيلي المرتبط بالـAI.
قال مصدر آخر إنّ النظام سمح لقوات الاحتلال الإسرائيلية بتشغيل “مصنع للقتل الجماعي” يكون “التأكيد فيه على الكمّية وليس الجودة”. وأضاف أنّ عيناً بشرية “تمرّ على الأهداف قبل كلّ هجوم، لكن لا حاجة لها إلى قضاء كثير من الوقت في ذلك”.
الحرب المقبلة: الروبوتات آتية؟
بعد أيّام من الذكرى الأولى لـ7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، كشف إيلون ماسك، قطب صناعة الذكاء الاصطناعي، عن “روبوت تجاري” على هيئة إنسان، سيكون قادراً على “القيام بكلّ شيء”. وذلك من خلال حمل الأشياء الثقيلة والقيام بجولة مع الحيوانات الأليفة وانتهاءً بالعمل على تربية الأطفال وغيرها من المهامّ المنزلية.
أصلاً بدأت إسرائيل استعمال روبوتات قصيرة ليست على هيئة إنسان، لفحص من تشتبه في أنّهم يحملون أحزمة ناسفة. وتستعمل دول عديدة روبوتات لتفجير بعض الأسلحة، بهدف حماية العنصر البشري من الخطر.
لكن لماذا لا تستعمل الدول المتطوّرة هذه الروبوتات في الحرب بدلاً من المقاتلين؟
بالطبع خطرت هذه الفكرة على بال الإسرائيليين والأميركيين. وربّما بدأ تنفيذها في مكان ما لا نعرفه. ربّما يكون الرجال الآليون مشاركين في تمشيط شوارع غزّة. لكنّ الأكيد أنّ الحرب المقبلة قد تشهد مشاركة “روبوتات عسكرية” بدلاً من المقاتلين البشريين. وهذه قد تكون نهاية الحرب بين مقاومين بدائيين، لا يملكون من التقنية أو العلم أو المعرفة أكثر من الإيمان الغيبي بأنّ الله سيقاتل معهم وعنهم، وبين المتسلّحين بالعلم والمعرفة وكلّ ما ينتجانه. بين تنظيم ينهل من ثقافة تحتقر المعرفة والعلم، وتُحاصر العلماء وتطردهم وتسلّط عليهم العسكر البدائيين غير المتعلّمين، وبين مجموعة تقدّس العلم وتؤمن بأنّه هو وسيلتها للفوز بالمعركة.
محمد بركات