بقلم جان عزيز «اساس ميديا»
لم يُخفِ آموس هوكستين نبرته المتهكّمة وهو يتبادل أطراف الحديث مع أحد الذين التقوه قبل فترة. فالرجل بات يعرف لبنان بخرائطه وأرضه أكثر منّا.
والأهمّ أنّه بات يعرف المنظومة اللبنانية الحاكمة، كما لم يعرفها اللبنانيون. أو كما يُغرقون في إنكار معرفتها والاعتراف.
كشف الرجل يومها ثلاثة أمور.
أهمّ ما فيها أنّها تضيء على مشهد لبنان ومشهد حدوده ومشهد ما يدور من حوله، في المرحلة المقبلة.
هناك مشهد لبناني أوّل يرتسم الآن جنوب الجنوب.
ففي ذلك الكيان الغاصب تتوالى صورٌ مقطعيّة كالتالي:
“طوفان الأقصى” هو ثالثة أكبر حصيلة دموية في لحظة حدَثيّة واحدة، بحسب داتا جامعة فيرجينيا لرصد جنون الأرض.
7 أكتوبر (تشرين الأول) يعادل 15 مرّة مأساة 11 أيلول في أميركا، إذا ما قيس نسبةً إلى عدد السكّان.
في ذلك اليوم بالذات، %20 من مستوطني الكيان فكّروا في مغادرته نهائيّاً والهجرة منه.
بنيامن نتنياهو، ابن أبيه الشهير وشقيق “يوني” المحرِّر في عملية عينتيبي، لن يترك الساح ولا السلاح، وسيستمرّ في الزعيق “لبّيك يا شعب الله”، حتى ينجو بنفسه لا غير.
كلّ الباقي تفاصيل غير مؤثّرة على الحدث في عقل الرجل.
ثورة في أعرق جامعات أميركا لأجل فلسطين؟ خبر ممتاز. سيستثمره في خطاب التهويل على ناسه بانتشار خطر معاداة السامية في الغرب كلّه، وتأكيد نظريّة الوطن اليهودي الأوحد وضرورة هجرة الجميع إليه.
هلع في معسكر بايدن الانتخابي؟ خبر أروع. أشهرٌ قليلة ويعود ترامب إلى بيته الأبيض، بيده اليسرى عهدٌ قديم يبيعه بستّين دولاراً لكلّ ناخب، وفي اليمنى عهدٌ متجدّد ومستدام لإسرائيل.
باختصار، كلّ المآسي والكوارث عند نتنياهو مكاسب. وها هو يستعدّ لمضاعفتها بمأساتين جديدتين مرشّحتين لتصيرا كارثتين: رفح وجنوب لبنان.
الضربة في حساباته حتمية. الباقي حصادٌ مضمونٌ من نوع الثمار الحمر مثل الدم.
سوريا: العرض الإيراني…
مشهدٌ لبنانيّ ثانٍ يرتسم شرق لبنان وشماله.
هناك نظامٌ خرج لتوّه من حرب النصف مليون قتيل من شعبه. خرج منها وخرج الشعب من بلده… ولم يخرج الطرفان من الحرب.
نظام يحاول التكيّف مع تركة العقد الماضي الثقيلة حتى الاختناق. يبحث عن مخارج ومنافذ إلى هواء جديد.
معروضٌ عليه الآن طرحان اثنان:
الأوّل من نظام الملالي، والثاني من النظام العربي الرسمي والأساسي.
ها هو منهمك حاليّاً بوضع عناصر العرضين في جدول مقارنة:
العرض الإيراني قوامه التالي: تشييعٌ للسكّان، “خمنأة” للأرض، قنصليّاتٌ مقصوفة، ميليشيات متعدّدة من أفغان وهازارا، وتسارعٌ مذهل في السفر بعيداً إلى الماضويّة.
عرضٌ قد يحمي سيّد النظام في قصره ومحيط دمشق. لكنّه قد يثير له إشكاليّات عنيفة داخل بيته وبيئته، وفق القاموس اللبناني للتورية على الانتماءات المذهبية أو القبلية.
وقد يزعج الحارس الروسيّ الذي يطمع بمسيّرات طهران فقط. لا بمسيرتها الدوغماتية والتيوقراطية، فيما قيصر الكرملين مقيم على قلقه من الإسلامويين، من القوقاز حتى قلب موسكو.
وقد يقطع عليه عرض الملالي الطريق إلى الحضن العربي، ثمّ الغربي والدولي. وقد يحصر بلده وشعبه في اقتصاد الكبتاغون وقطاع مصارف الدرّاجات النارية وسياحة العتبات وما دونها حصراً.
الأسد والعرض العربي
في المقابل لديه عرضٌ عربي، يطمئِنُ بيئة الأكثرية السنّيّة التي يحكمها. يفتح له دروب العرب والغرب. كما باب العودة من مجاهل التاريخ إلى شيء من اقتصاد العصر. ولا يثير روسيا.
فماذا يختار؟
الميل السوري واضح منذ الآن. إذ ليست مصادفة أنّه فيما كانت إيران وإسرائيل تتباريان في بينغ بونغ الغارات بينهما، من قلب دمشق حتى أصفهان، كان النظام السوري منكبّاً بكلّ دوائره على تنظيم طلبات الحجّ والعمرة إلى “مملكة الخير” السعودية. ذلك أنّ كوتا النظام تضاعفت عمّا كانت عليه حتى قبل حرب سوريا. والتفاصيل اللوجستية مضنية. ليس أقلُّها قراراً رئاسياً بإيداع كلفة كلّ حاجّ سوري في مصرف خليجي الملكية حدّدته دمشق حصراً. فدمشق، رئاسة ودولة وشعباً، لا تثق إلا بالخليج!
يبقى مشهد ثالث لاكتمال الصورة. إنّه مشهد الحزب في لبنان.
المسألة هنا لا تحتاج إلى تحليل ولا قراءات ولا فذلكات. هي قضية مقضيّة بحكم إلهيّ:
إذا ما خُيّر بين زوال لبنان لتحرير فلسطين وأقصاها، وبين جنّات الدنيا وسلطانها من أقصاها إلى أقصاها، لكان خياره بديهيّاً ومن نوع المسلّمات التي لا تُساءل ولا تناقش ولا تُراجع في الطريق، أيّاً كان الثمن. فلسطين هي الخيار!
ضرب لبنان حتمي
هكذا تتّضح صورة لبنان في المرحلة المقبلة: سيضرب نتنياهو ضربته حتماً. قد تكون ضمن حدّين: إقامة شريط حدودي عازل بالتدمير والنار والتهجير النهائي. وضربات موضعية في كلّ لبنان.
وقد يحقّق الوحش الصهيوني غايته. وقد يفشل.
لكن في الحالتين سيجد الحزب نفسه بمواجهة الداخل اللبناني، المنتصر بدماره، أو المدمَّر كلّياً بضربته. وفي الحالتين سيصطدم الحزب بهذا الداخل. تماماً كما حصل معه بعد حرب تموز.
سيلتفت ليجد منظومة لم تقدّر تضحياته. ولم تهيّئ نفسها لمكاسبه. ولم تقتنع أو تُذعن بأنّ الأرض كلّ الأرض، لمن حماها.
لكن هذه المرّة لن يجد الحزب “عملاء وخونة” لبنانيّين.
بعد تموز 2006 ذهب إلى الصدام مع السنّية السياسية ممثّلة بسعد الحريري. ومع 14 آذار بوجهَيْها جعجع وجنبلاط.
اليوم، وبعد ضربة الجنوب المقبلة، لن يجد حريري يصطدم به. فيما جنبلاط من “المؤمنين” الذين لن يُلدغوا مرّتين. أمّا ضرب جعجع فمعناه القضاء على باسيل كلّياً، قبل الوصول إلى ساحة ساسين. بحيث لا يبقى من حليف تفاهمه السابق مسيحياً، إلّا من لم يتسنَّ له فصله من تيّاره، أو انفصاله عنه، حتى الانفصام.
إذا استمرّت الأمور على هذا النحو، فسيعود الحزب من معركته المظفّرة، ليجد خصماً وحيداً ينازله في بيروت، هو النزوح السوري. بملايينه وتمدّده وتنظيمه ومرجعيّته الدمشقية المتمايزة.
مشهد يذكّر بمجزرة ثكنة فتح الله. يوم دخل غازي كنعان بيروت على جثث مقاومي الحزب.
المباراة الأخيرة
كلّ التمهيديّات لهذه المباراة النهائية تجري الآن أمام أعيننا.
إعادة تموضع إيرانية ميدانية في سوريا.
إعادة تموضع سورية سياسية في الإقليم.
إعادة تموضع حمساويّة على حدّ المرجعية التركية من جهة، وحدّ القبول بالقرار 242 عمليّاً من جهة ثانية. كما أكّد وزير خارجية السلطان إردوغان.
فيما هوكستين يُسرُّ همساً لأحد زوّاره من خارج لبنان وسياسيّيه:
“كلّ همّي واهتمامي ومهمّتي، هي الحدود الجنوبية وتسويتها.
حين أسمع أخبار الاستحقاق الرئاسي اللبناني، أشعر أنّني عدت إلى الثمانينيات.
وأخيراً لديّ انطباع داخلي بأنّ اتفاق الطائف قد تخطّاه الزمن”.
كلامٌ يرفد مقاطع المشهد السابق عن أنّ نهائيّ “البطولة اللبنانية” سيكون بين الحزب ودمشق. أو هي نهاية لبنان.
إلا إذا اقتنع الطرفان الآن وفوراً، في ضاحية بيروت وفي دمشق المتحوّلة ضاحية، في الرئاسة والنزوح والحدود، بأنّ لبنان الذي لم يعرفاه يوماً ولم يعترفا بجوهره مرّة، هو ضرورة لهما أوّلاً.
جان عزيز