بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
الأنباء عن المحادثات المباشرة بين واشنطن وحماس لم تنزل برداً وسلاماً على تل أبيب ولا على رام الله. كانت الحكومة الإسرائيلية تنتظر ضوءاً أخضر أميركياً لرمي غزّة في أتون جهنّم، إلّا أنّها صُدمت بتشريع إدارة دونالد ترامب أبوابها للحركة المصنّفة إرهابية. والسلطة الفلسطينية التي فاضت في تقديم التنازلات لإثبات أهليّتها، وجدت نفسها محشورة في الزاوية الصعبة، بعدما انصرفت الولايات المتحدة عنها نحو غريمتها الإسلامية.
تجاوزت المحادثات بين القيادي الحمساوي خليل الحيّة والمبعوث الأميركي لشؤون الرهائن آدم بولر قضيّة الإفراج عن الرهينة الأميركي – الإسرائيلي عيدان ألكساندر المحتجز في غزة، إلى بحث الوضع الراهن في القطاع ومستقبله. سلاح حركة حماس شغل حيّزاً واسعاً من النقاش. وتحدّث ممثّل الحركة خلال المحادثات عن مشروع اتّفاق يشمل حزمة كاملة، رافضاً الحلول الجزئية التي حملها بولر في اللقاء التمهيدي. تحظى هذه الحزمة بدعم فصائل المقاومة في القطاع، وآثارها لا تقتصر على غزّة فقط، بل تمتدّ إلى الضفّة الغربية والقدس، إذ تضمّنت اقتراحاً بهدنة طويلة من عشر سنين، وتشمل غزة والضفة، وتضمن بقاء الوضع في القدس كما هو.
أبدت حماس استعدادها لإمكان الحديث عن نزع منظومة الأسلحة الهجومية وفي مقدَّمها الصواريخ البعيدة المدى، في مقابل الهدنة الطويلة، التي ستعقب التوصّل إلى اتّفاق يشمل انسحاب جيش الاحتلال من غزة، وإنهاء الحرب الحالية، وإطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين، بدءاً بحمَلة الجنسية الأميركية. أمّا السلاح التقليدي والخفيف فشأنه مرتبط بإقامة الدولة الفلسطينية، مع التشديد على أنّ ذلك يُعدّ مبدأ راسخاً مهما تبدّلت القيادة.
كشف آدم بولر أيضاً أنّ عرض حماس شمل تخلّيها عن إدارة القطاع.
ليست المفاجاة في مضمون المحادثات ولا بمسارها، بل باللقاء بحدّ ذاته وما يستبطنه من معان.
كانت حماس تُمنّي نفسها بإجراء حوار مع الولايات المتحدة، وواشنطن التي تصنّف الحركة بأنّها “إرهابية” هي التي كانت ترفض. إذاً ما تغيَّر هو الموقف الأميركي وليس الحمساويّ. لكنّ الحوار بحدّ ذاته لا يعني رفع اسم حماس عن قائمة “الإرهاب”، فدون ذلك درب طويل وشائك وشروط أميركية يصعب على الحركة الفلسطينية القبول بها قبل إجراء انقلاب جذريّ في مفاهيمها والميثاق والسياسات. بيد أنّ الجديد الأميركي يُمثّل بداية تحوّل قد يقود إلى اعتراف ضمنيّ بأنّ الحركة بعد الفشل في القضاء عليها عسكرياً، باتت جزءاً من الحلّ السياسي، لا تشطب من المعادلات الجديدة ولا من أيّ عملية تفاوضية مقبلة.
تعاملت واشنطن مع منظّمة التحرير الفلسطينية بما هي عدوّ وخصم، ثمّ رضخت للحوار معها للوصول إلى تسوية في الشرق الأوسط، وتوّجت انفتاحها عليها بفتح مكتب للمنظّمة في العاصمة الأميركية عام 1994، استمرّ في نشاطه السياسي والدبلوماسي إلى حين وصول ترامب الأوّل إلى البيت الأبيض.
سكوتٌ مرّ
إدارة ترامب التي أغلقت مكتب المنظّمة في عهدها الأوّل تحت الإلحاح الإسرائيلي، تفتح في عهدها الثاني حواراً مع حماس، تعبيراً عن استيائها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي جعل من قضيّة الرهائن في غزة ورقة مساومة داخلية لإرضاء المتشدّدين وإطالة عمر حكومته خشية الذهاب إلى المحاكمة بتهمة الفساد، حتّى لو كان ذلك على حساب المصلحة العليا لإسرائيل والولايات المتحدة بالإفراج عن الرهائن ووقف الحرب. هكذا باتت واشنطن ترى أنّ حليفها الإسرائيلي هو المشكلة، وأنّ “إرهابيّي حماس” هم جزء من الحلّ.
نتنياهو الذي شاهد ما الذي حلّ بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، ليس أمامه سوى ابتلاع الطعم والسكوت المرّ، تحاشياً لاستفزاز “الفيل الهائج في دكّان الخزف”، وحتى لا يكون الضحيّة الثانية على لائحة “الضحايا الأصدقاء” في المكتب البيضاويّ.
ترامب الذي لا يتصرّف رئيساً لأميركا فحسب، بل رئيساً لحكومة إسرائيل أيضاً، لا يكفّ عن إخراج الأرانب من قبّعته، وبعد قراره فتح قناة اتّصال مع حماس، تراجع عن تهديداته بتهجير أهل غزّة، إذ أكّد أمام ضيفه رئيس الوزراء الإيرلنديّ مايكل مارتن أنّه لن يطرد أيّاً منهم من أرضه. وقد تحمل الأيّام المقبلة ما يعجز المنجّمون عن التنبّؤ به.
قد يكون الانفتاح الأميركي على حماس الضربة الأكثر إيلاماً لنتنياهو، خصوصاً أنّه جرى على أربع مراحل، وتجاوز قضيّة الرهائن إلى صلب مشكلة غزّة وفلسطين، وشكّل مساراً موازياً للمسار الرباعي الرسمي والعلني. إنّها خطوة قد تحمل حلّاً وتُجبر إسرائيل على القبول به، وسط تصريحات أميركية ترى أنّ الحلّ ممكن مع حماس، وأنّ الحركة “مرنة وليست متعنّتة”، و”المحادثات معها كانت مفيدة للغاية”، على حدّ قول بولر لشبكة “سي.إن.إن”.
ذهب المبعوث الأميركي إلى ما هو أبعد عندما خاطب الإسرائيليين مباشرة متخطّياً حكومتهم، وقافزاً فوق وسائل إعلامهم، إذ كشف لهم الصورة التي يسعى نتنياهو إلى حجبها عنهم، فقال: “لقد جرى تحقيق تقدّم في المفاوضات، وهناك مخطوفون سيعودون إلى البيت (…) أقول لمواطني إسرائيل لن ينساكم الرئيس الأميركي”. ثمّ أضاف بأسلوب غير دبلوماسي لم تسمع إسرائيل مثله من قبل أنّ “الولايات المتحدة ليست وكيلة لإسرائيل، ولدينا مصالحنا الخاصّة المنفصلة عنها”.
لا يكتفي ترامب بكونه رئيساً لأميركا، إذ يريد أن يكون أيضاً رئيساً لحكومة إسرائيل. وهكذا هل بات نتنياهو عبئاً على واشنطن الجديدة، فإمّا أن ينصاع لها ويسير بالركب وإمّا يرحل أو يُطاح؟ وهل اختمرت صفقة ترامب الكبرى وصارت جاهزة للتطبيق: إعادة الرهائن، وقف الحرب، ثمّ النقلة الأخيرة التطبيع؟
أمين قمورية