ما حاجة الموارنة إلى حاكمية البنك المركزي؟

عبادة اللدن

اساس ميديا

 

 

من يقضي ثلاثين عاماً حاكماً للمصرف المركزي في بلدٍ كلبنان لا يمكن أن ينتهي به الأمر إلا فاسداً أو قدّيساً. فكيف تحوّل القدّيس الماليّ إلى فاسد مخفور اليدين؟

قضى رياض سلامة ثلاثين عاماً في حاكمية مصرف لبنان، عاصر خلالها أربعة رؤساء لمجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي، وأربعة رؤساء للبنك المركزي الأوروبي، وتفوّق بأحد عشر عاماً على بيل مارتين، أطول رؤساء الاحتياط الفدرالي خدمة في التاريخ طوال عقدي الخمسينيات والستّينيات.

كان رياض سلامة تكنوقراطاً محضاً حين أتى به رفيق الحريري إلى الحاكمية. كان “بروفايله” مغرياً لتصدير صورة عن تحشيد الكفاءات اللبنانية الناجحة دولياً في مشروع النهوض بالبلد. شابٌّ كغيره من أبناء الطبقة الميسورة، تخرّج من مدرسة الجمهور، ثمّ من الجامعة الأميركية، وعُيّن في سنّ الخامسة والثلاثين نائباً للرئيس ومستشاراً ماليّاً في “ميريل لينش”، أحد أكبر المصارف الاستثمارية في العالم في مطلع عقد التسعينيات. من ذا الذي لا يغريه استقطاب شابّ بمثل هذا النجاح إلى القطاع العامّ بعد عقدين من الحروب والانهيار الاقتصادي؟

دخل سلامة القطاع العامّ في سنّ الثالثة والأربعين، وحقّق في سنواته الأولى نجاحاً باهراً، بمزيج من الحنكة الاستثمارية وتدفّقات الرساميل من الخارج. لكنّه خبِر حجم النفوذ الذي يوفّره له منصبه، ومقدار “الخدمات”، وغالبها فسادٌ محض، التي يُتاح له تبادلها مع النخبة السياسية والاقتصادية والأمنيّة والقضائية. وهُيّئ له أنّ ذلك يكفيه لرفع مظلّة الحماية فوق رأسه.

كيف أمكن التّستّر على كلّ هذا الفساد؟

الفساد لا يفاجئ أحداً في لبنان، غير أنّ فضائحه مادّة مثيرة للفضول، خصوصاً حين تختلط رائحة السيجار الكوبي بحِيَل تهريب الأموال وتحويلها من حساب إلى آخر خارج الحدود. ومع ذلك فإنّ ما افتُضح حتى الآن يثير تساؤلاً هامشياً: إذا كان الفساد قد بلغ هذا المبلغ الفجّ، حجماً وأسلوباً، فكيف أمكن التستّر عليه لسنوات طويلة؟ والجواب يكاد يكون يقينيّاً لدى العامّة بأنّ ما خفي لدى الآخرين أكثر ممّا افتضح من حكايا الحاكم.

اللغز الذي يحيّر العامّة في قضية سلامة يتعلّق بافتضاح أمره واعتقاله، لا بفساده:

– من رفع الغطاء عنه؟

– كيف أمكن توقيفه من دون افتضاح أمر شركائه من السياسيين وأصحاب النفوذ؟

ثمّة فرضيات متعدّدة في هذا الصدد:

– منها ما يحيل الأمر إلى ضغطٍ خارجي أكبر من أن يُقاوم.

– ومنها ما يحيله إلى صفقة بين الداخل والخارج.

– ومنها ما يشير إلى فجاجة الفضائح وتعذّر التغطية عليها.

وتبنى على ذلك فرضيّات حول مآل القضية:

– هل يستمرّ حبس الرجل حتى المحاكمة؟

– هل يتوسّع التحقيق ليشمل الملفّات الأخطر التي تضمّ أسماء كبيرة من أهل السياسة والنفوذ؟

– هل يمكن التضحية بسلامة من دون المسّ بمن لديه مفاتيح أسرارهم وتعاملاتهم؟

علاقة رياض سلامة بالحزب

الأكيد أنّ سجن الرجل مسار لا يمكن وقفه أو عكسه، لكنّ بالإمكان العمل على تطويق النيران من حوله، بالقليل أو الكثير من الأثمان. ولا يخفى أنّ القضاة أنفسهم جزء من التركيبة الكبرى للدولة. ولا يمكنهم العمل بمعزل عن ضغوطها وصراعاتها وحساباتها.

يبقى أنّ في السيرة الذاتية فصلاً غائباً عن التداول يتعلّق بالملفّ السياسي لرياض سلامة. يروي أحد المقرّبين السابقين من الرجل فصولاً عن التواصل غير المباشر الذي كان يتمّ بينه وبين الحزب في مرحلة تشديد العقوبات الأميركية على الحزب عام 2016، وما تخلّلها من تهديد مباشر للبنوك ولسلامة نفسها بلغ ذروته بالانفجار أمام مقرّ بنك “بلوم” في الصنائع.

كانت تلك المرحلة الأدقّ التي استعمل فيها كلّ مواهبه السياسية لإرضاء الأميركيين والحزب في الوقت نفسه. فهو أقنع واشنطن بأنّه يقوم بما هو ممكن لإخراج الحزب من النظام المالي. وأقنع الحزب بأنّه يساير الأميركيين من دون أن يعطيهم مبتغاهم. بل إنّ رسالة وصلت إلى الحزب بأنّ “الرجل طامح إلى الرئاسة، ولا يمكن أن يغضبكم”.

الواقع أنّ سلامة أعطى الأميركيين بالقول والتعاميم، وأعطى الحزب بالفعل. فمنظومة الحزب الماليّة لم تُمَسّ. بل خرجت أموال الحزب من النظام المصرفي إلى خزائن القرض الحسن. ونشأت منظومة رديفة من الصيارفة تحت أنف مصرف لبنان.

سيرة سلامة.. وعلل توليد الفساد

تحيل سيرة رياض سلامة إلى ثلاث علل تولّد الفساد السياسي والمالي في حاكمية مصرف لبنان:

1- أنّها باب مفترض إلى رئاسة الجمهورية، ما دام المنصبان مخصّصين للموارنة. وهذا بابٌ فتحه صاحب الثوب الناصع إلياس سركيس ولم يغلق بعد ذلك. لكن ليس كلّ الحكام إلياس سركيس. بل إنّ تجربة رياض سلامة قدّمت نموذجاً سيّئاً لتبادل الخدمات السياسية وغير السياسية مع أهل الحكم، خلافاً للمبدأ الراسخ لاستقلالية السلطة النقدية. وهذا ما قاد مصرف لبنان عمليّاً إلى الرضوخ لطلبات تمويل الإنفاق الحكومي (والفساد) من الاحتياطيات وأموال المودعين.

2- أنّ طول فترة الإقامة في المنصب يطيل أمد نسج علاقات المصالح، ولذلك ربّما يميل الحاكم إلى تقديم التنازلات والخدمات للسياسيين نظير التجديد له مرّة بعد مرّة.

3- أنّ نظام الحوكمة والمحاسبة أثبت ضعفه في مصرف لبنان، بشهادة ما تمّ كشفه عن انفراد الحاكم بالتحكّم بقرارات المجلس المركزي، الذي يضمّ أعضاء غير متفرّغين، والعديد منهم غير متخصّصين في الشأن النقدي ولا يدركون عواقب القرارات التي يوقّعون عليها.

لماذا تصرّف منصوري بطريقة مختلفة؟

ربّما ما يستحقّ التوقّف هو السلوك المغاير لخليفة سلامة في المنصب، الحاكم بالإنابة وسيم منصوري الآتي من رحم “المنظومة” نفسها، ولم يهبط إلى القطاع العامّ بالباراشوت:

– لماذا أوقف تمويل الدولة من الاحتياطيات خلافاً للقانون؟

– ولماذا قدّم المعلومات المتعلّقة بملفّات الفساد للقضاء؟

– ولماذا تعاون مع الجهات الخارجية، ومنها المجموعة الدولية للعمل المالي؟

التفسير البراغماتي، من دون بخس شيء من الرجل وأخلاقيّاته، أنّه وصل إلى ذروة ما يمكن لشيعي أن يصل إليه في البنك المركزي، بل وربّما خارجه. فلا هو طامع بالتثبيت أو التمديد، ولا هو طامح لأيّ من الرئاسات. أفضل ما يمكن أن يفعله وهو يعدّ الأيام في منصبه بالإنابة أن يضيف صفحات ناصعة إلى سيرته الذاتية تخدم مساره المهنيّ في مقبل الأيام. وربّما تكون مؤسّسات دولية أو بنوك إقليمية كثيرة في انتظاره.

يمكن البناء على تجربة منصوري لتحرير منصب الحاكمية من العلّات. فليبقَ المنصب مسيحياً، لكن ما حاجة الموارنة إليه؟ فليذهب للأقلّيات أو الأرمن أو الكاثوليك. وليكن التمديد لولاية واحدة كحدٍّ أقصى. لعلّ الحكام بعد ذلك يهتمّون بسِيَرِهِم الذاتية أكثر من اعتنائهم بالتمديد والتمدّد في شرايين الدولة.

التعليقات (0)
إضافة تعليق