نادين صموئيل
الشرق – معلّقون نحن في لبنان، بين مجد القداسة وقسوة الواقع، بين الأرض المعذّبة منذ فجر التأريخ، والسماء التي حمّلتنا رسالة خاصة بنا، ذكّرنا بها البابا يوحنا بولس الثاني عندما قال: «لبنان أكثر من بلد، إنه رسالة».
رسالة نكّملها، على الرغم من الألم الذي نعيشه في وطننا الصغير، على الرغم من آلاف المشاكل، والعثرات المنثورة على دروب يومياتنا، والتي باتت لا تحصى ولا تعّد.
لقد علّمنا القديسون، كيف نتعامل مع الألم وكيف نعبر المراحل الصعبة،
لقد رافقنا القديسون منذ البدء، في سيرتهم ومسيرتهم، علّمتنا بالفعل لا بالقول، أنّ درب الصلب نهايته قيامة، هذا هو إيماننا المحفور على جذع أرزة، نحمله في قلوبنا ووجداننا أينما ذهبنا.
مرّة جديدة نختبر أنّ مجد الرّب أعطي للبنان، من خلال القديسين، علامة تضيء بحر الظلام والظلمة التي داخلها نعيش.
نحن في اليوم الثاني من شهر آب 2024 ، على موعد جديد مع القداسة، مع جرعة جديدة من الإيمان والمحبة التي تغلب شرور العالم وظالميه، مناسبة تعطينا القوة، لمواصلة الطريق الذي لا يزال مشوباً بالمخاطر، لأنها قداسة ارتبطت بتأريخ هذا الوطن وسهرت عليه، كيف لا ؟! شعبٌ نحن، ووطن نعيش في العناية الإلهية الى هذا الحين.
هو البطريرك اسطفان الدويهي، الذي تذّكرنا حياته، بحياتنا اليوم، فهو الذي اختبر الظلم، وعاش الهروب بسبب الاضطهاد، والديون المترتّبة على الكرسيّ في قنّوبين، بسبب جور الحكام وظلمهم….
هرب مراراً إلى دير مار شليطا في غوسطا، وإلى مجدل المعوش في الشوف، وكثيراً ما كان يقضي الليالي متنقلاً في مغاور وادي قنّوبين.
وبعد مرحلة شديدة الصعوبة توفاه الله في قنوبين في 3 أيّار 1704 ، بحيث دُفن مع أسلافه في مغارة القديسة مارينا.
هل من يشبه البطريرك الدويهي اليوم ؟!
علينا أن ننطلق في رحلة بحث مضنية عن ملامح البطريرك الدويهي، في وجوه اللبنانيين وقلوبهم، ولكن لا بدّ أن نلتقي به ….
لقد تعلّق البطريرك الدويهي بالعذراء مريم، كما تعبّد للقربان الأقدس وواظب على الصلاة،
كان متواضعاً جداً، ومحبّاً للفقراء. خدم الفلاحين وسقاهم في كأسه، ولم تؤثر فيه السلطة.
علينا أن نقرأ هذه الجملة مرتين، «ولم تؤثر فيه السلطة»، لنشعل مصابيحنا في الليلة الظلماء، باحثين عمّن يشبه البطريرك الدويهي!
كتب البطريرك الدويهي تأريخ صلوات الكنيسة المارونية وحفظها، كما كتب تأريخ لبنان، فسمّي ب: «أبو التأريخ اللبنانيّ»
إنه بطريرك وقديس التأريخ والقداسة، شاهد على مسيرة شعبه بكل عذاباته وبكل نجاحاته، في اختبائه في حمى الوادي المقدس، وفي درب جلجلته، وأيضا في غزوه للعالم بالمحبة والمعرفة، وفي تميّزه وفرادته وثقافته .
ولكن بعد الثاني من آب سوف نعود إلى ذكرى أليمة، إلى جرح لا يزال مفتوحاً، إلى حقيقةٍ ضائعة . سوف نعود إلى الرابع من آب، لنتذكر ما لم ننساه يوماً، انفجار العاصمة بيروت، انفجار أو تفجير مرفأ بيروت، الحيّ فينا في كل يوم. تفجير لم تُكشف حقيقته حتى الآن، ولم تُعرف دوافعه بعد، بيروت التي تثبت مرةً تلو المرة، أنها قادرة على الخروج من الرماد، كطائر فينيق ينفض الوجع ويحلق من جديد، بيروت عاشقة الحياة تأبى الموت، ولا تهاب قاتليها. الرابع من آب، عائد في سنته الرابعة، ولكن هذه المرة عائدٌ حاملاً معه ذخيرة تعزيّة حقيقية، وأمل محتّم، حامل معه إعلان تطويب قداسة الطوباوي البطريرك اسطفان الدويهي، الذي علّمنا الأمل والرجاء، وشرح لنا معاني القيامة التي نراها في كلّ ابتسامة، في عيون الأمّهات التي تعمل وتربّي وتواجه الصعاب،
في عيون الأباء الذين يواجهون الأمريّن، بقلبٍ صامت من أجل كرامة العائلة، والاستمرار من دون منًة من أحد، الأمل الذي نراه من عيون كلّ لبناني مهاجر من أجل مساعدة العائلة، أو من أجل تحقيق الحلم نرى ذاك الأمل بالتفوق والصمود، في عيون شعبٍ لبنانيّ لا يستسلم، لا يقهر، يتألم لكنه لا يموت. لا بدّ من أن يتدحرج هذا الحجر، ويبذغ فجر القيامة المنتظر، في عيون كلّ يدّ تزرع وفي كلّ يدّ تصنع، في عملية المواجهة للبقاء، مع كلّ شخص مصّر أن لبنان وطن الرسالة،
مع كلّ مستثمر لا يخاف، مع كلّ تاجر لا يخشى الخسارة ومع كلّ شاب لبنانيّ مغامر، لا تغرّه أوطان العالم، باقٍ على حب وطنه، يناضل في صناعة مجد غده، وفخر هويته وحضارته.
الثاني من شهر آب 2024 ، لن يكون يوم عاديّ، لا بل تأريخ استثنائي في تأريخ لبنان، إلّا وهو تطويب البطريرك الدويهي، كما والرابع من شهر آب 2024 ، ذكرى تفجير مرفأ بيروت، تأريخان يتزامنان ليثبتا أن المحبة تنتصر على الموت، والسلام على الحرب، والفرح على الأحزان والآلام، ونكمل رسالة لبنان الحقيقية،
ثقافة الحياة في البعد الروحي الذي يزورنا من جديد، ليهدي وطننا نفحة الخلود التي خصّه بها الله، وننهض أقوياء بعد كلّ أزمة، ليبقى لبنان الكنز الذي يضمن لنا المسقبل في عالم تهّزه الصراعات…
إنها العودة الى الجذور، العودة إلى عمق ثقافتنا ومحبتنا التي جعلت وطننا الصغير واحة تلاقي، والتي صنعت من أبنائه بذوراً مثمرة مزروعة في العالم كلّه، تبّشر بلبنان، لبنان الرسالة.
ننطلق من جديد ولكن تبقى أسئلة ملحّة: كيف ينظر الشباب إلى لبنان؟ وهل هم قدوة في المثابرة وتحدي الصعاب ومواجهة الخوف؟
وحين نرى الفساد المستشري والإنهيار وأرضنا المفتوحة على كل الاحتمالات من حروب ونزوح وسرقات وغيرها هل تموت الأحلام ؟!
علّمنا قديسو لبنان، أن الصمود ليس دائما مواجهة، في أحياناً كثيرة هو تحدّي الذات والصعوبات والسعي لغدٍ أفضل.
علّمنا قديسو لبنان، أن نقبل صعوبة رسالتنا ووجودنا في شرقٍ لا يعرف السلام، ومواجهة الأزمات بخلق فرص جديدة، لأنهم رسل فرح وحياة، رسل القيامة الذين يُطئُون الموت بالموت، منطلقين معهم باتجاه النور.