بقلم ابراهيم ريحان «أساس ميديا»
لا تتعلّق حسابات واشنطن فقط بشكل الرّدّ الإيرانيّ على قصف قنصليّة طهران في دمشق. إذ ترتبط أيضاً بشكلِ الرّدّ الإسرائيليّ على الضربة الإيرانيّة ليل السّبت الماضي. لا تريد واشنطن حرباً واسعة، ولهذا طلبَ الرّئيس الأميركيّ جو بايدن من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التنسيق الكامل مع واشنطن قبل اتّخاذ أيّ خطوة، مهما كانت، ضدّ إيران. يستعملُ الإسرائيليّون لسانَيْن بشأن توقيت الرّدّ على إيران. قال نتنياهو إنّ على إيران أن تنتظر الرّدّ وتشعر بالضّغط تماماً كما حصل مع إسرائيل. أمّا تسريبات مسؤوليه للإعلام الإسرائيليّ فتقول إنّ الرّدّ آتٍ وبسرعة.
احتمالات الرّدّ الإسرائيليّ
يكشف مصدر أميركيّ مسؤول لـ”أساس” أنّ بايدن أبلغ نتنياهو في اتّصالهما أنّ بلاده لن تُشارك في أيّ عمل هجوميّ ضدّ إيران، وأنّه شخصيّاً يُعارض أن تقوم إسرائيل بالرّدّ على إيران دون تنسيق كامل على جميع الصّعد مع الإدارة الأميركيّة.
استدركَ نتنياهو الرّسالة الأميركيّة، وهذا ما دفعه للقول إنّ تل أبيب تنوي الرّدّ بـ”حكمة” على إيران. في ردٍّ على وزير الأمن القوميّ بن غفير الذي دعا إلى “ردّ جنونيّ” عليها.
بحسب المصدر، تدرسُ تل أبيب خيارات عديدة للرّدّ على طهران، من دون أن يؤدّي ذلك إلى حرب واسعة، وإن استجلبَ ردّاً إيرانيّاً يكون محدوداً هو الآخر:
1- توجيه ضربة محدودة لمنشأة عسكريّة في الأراضي الإيرانيّة، لا تؤدّي إلى خسائر بشريّة في صفوف الإيرانيين.
2- شنّ هجومٍ جوّيّ واسع على مواقع تابعة للحرس الثّوريّ والفصائل الموالية له في سوريا والعراق واليمن، من دون ضرب الدّاخل الإيرانيّ.
3- شنّ هجوم سيبرانيّ واسع النّطاق على قطاعات مُختلفة في إيران، من بينها المنشآت النّوويّة والاتّصالات والكهرباء وغيرها.
4- القيام بحملة سياسيّة واسعة في دول العالم لتصنيف الحرس الثّوريّ كمنظّمة إرهابيّة وفرض المزيد من العقوبات على إيران وأذرعها في المنطقة.
نهاية الصّبر الاستراتيجيّ؟
لم يكن ردّ إيران على الغارة الإسرائيليّة التي استهدفت قنصليّتها في دمشق “زلزالاً”، لكنّه أيضاً لم يكُن “مسرحيّةً”. هي مرحلة جديدة أرادت إيران أن تبدأها مُعلنةً نهاية “صبرها الاستراتيجيّ”.
هي المرّة الأولى في التّاريخ التي تُقرّر فيها طهران الاشتباك مع تل أبيب مُباشرة، بعيداً عن حروب الوكالة وحروب الظّلال وحروب النّاقلات.
الرّد الذي أرادته طهران “محدوداً”، يبدو أنّه سيستجلبُ ردّاً إسرائيليّاً “حكيماً”، بحسب وصف رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو. خلفَ اشتباك “الرّدود”، عَمِلَت وما تزال تعمل دبلوماسيّة “القنوات الخلفيّة”. إذ نشطت دولة قطر وسلطنة عُمان وسويسرا في محاولة لاحتواء الضّربة وتبادل الرّسائل بين طهران وواشنطن.
بالنّسبة للإيرانيين ليسَ مُهمّاً عدد المقذوفات التي أعلنَت تل أبيب وواشنطن ومعهما دولٌ أخرى إسقاطها. إذ كانَ بمقدورهم إطلاق أعداد مُضاعفة من المُسيّرات والصّواريخ الباليستيّة من دون إبلاغ أحد، وهو ما يؤدّي حتماً إلى أضرار جسيمة لدى الإسرائيليين واشتعال حربٍ واسعة في المنطقة. لكنّ ذلك لم يكُن مُراد إيران التي لا تُريد مواجهة مُباشرة مع الولايات المُتحدة.
المُهمّ لدى الإيرانيين أنّها المرّة الأولى في التّاريخ التي يلتمسون فيها “عدم مُمانعة” أميركيّة ضمنيّة على استهداف إسرائيل بشكلٍ مباشر. تولّت أميركا مهمّة الدّفاع فقط، وأبلغت الدّولة العبريّة أنّها لن تُهاجِم إيران.
القنوات الخلفيّة والعروض السّياسيّة
يُؤكّد مصدر أميركيّ لـ”أساس” أنّ واشنطن حاولت حتّى اللحظة الأخيرة ثنيَ طهران عن تنفيذ أيّ ضربةٍ تجاه الأراضي الفلسطينيّة المُحتلّة.
في هذا الإطار زارَ رئيس جهاز أمن الدّولة القطريّ عبدالله الخليفي العاصمة الإيرانيّة طهران يومَ الخميس الذي سبَقَ “ضربة السّبت”. بعيداً عن الإعلام، لكنّه لمسَ إصراراً إيرانيّاً على توجيه الضّربة “المضبوطة”.
خَلُصَ الخليفي إلى أنّ إيران مُصرّة على توجيه الضّربة. لكنّها أبلغته أنّ موعدها مساء السّبت، وأنّها ستُبلغ دول الجوار بها تجنّباً لأيّ “سوء تفاهم”. خصوصاً دول الخليج العربيّ والولايات المُتحدة.
في معلومات “أساس” أنّ رئيس مجلس الأمن القوميّ الإيراني علي أكبر أحمديان قال للخليفي إنّ قرار بلاده لا رجعة فيه. إذ تُصرّ إيران على “مُعاقبة إسرائيل” لضربها القنصليّة الإيرانيّة في دمشق بطريقة لا تُعطي نتنياهو الذّريعة لتوسعة الحرب، وتُعيد رسمَ الرّدع المُتبادل بين إيران وإسرائيل.
كذلك قال أحمديان إنّ بلاده قد تعيد النّظر في تنفيذ ردّها العسكريّ في حال وافقت الولايات المُتحدة على إدانة الهجوم الإسرائيليّ على قنصليّتها في مجلس الأمن الدّوليّ قبل مساء السّبت أو ضغطت على تل أبيب لإعلان وقف إطلاق النّار في قطاع غزة.
تعتبر إيران إدانةً كهذه انتصاراً لها، و”تأديباً” لإسرائيل، و”إسفيناً” و”سابقة تاريخيّة” في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب.
لم تكُن قطر وحدها على الخطّ. إذ كانَ الخطّ السّاخن بين طهران وواشنطن عبر مكتب قسم رعاية المصالح الأميركيّة في طهران، الذي تُديره السّفارة السّويسريّة، يعمل أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
كذلك حاولت واشنطن أن تُقدّم تعويضاتٍ “سياسيّة” لإيران في اليَمَن عبر سلطنة عُمان. ولهذا كان وزير الخارجيّة الإيرانيّ حسين أمير عبد اللهيان يزور العاصمة العُمانيّة مسقط يومَ الأحد في 7 الجاري. هُناك سمِعَ رئيس الدّبلوماسيّة الإيرانيّة عرضَيْن من واشنطن مُقابل الامتناع عن قصف إسرائيل:
الأوّل: إعادة تفعيل مُبادرة سُلطان عُمان هيثم بن طارق حول رفع العقوبات عن إيران والعودة التدريجيّة إلى الاتفاق النّوويّ في إطار ما يُعرَف بمبدأ “الخطوة مُقابل خطوة”.
الثّاني: وقف أميركا وبريطانيا هجماتها على الحوثيين في اليَمَن، ورفعهم عن لوائح العقوبات الأميركيّة. في مقابل امتناع إيران عن قصف الدّاخل الإسرائيليّ ووقف الحوثيين هجماتهم في البحر الأحمر.
كان هذا العرضُ محلّ نقاشٍ بين عبد اللهيان والمسؤول الحوثيّ محمّد عبد السّلام في مقرّ السّفارة الإيرانيّة في مسقط.
ليونة أميركا
قبلَت إيران العرضَيْن الأميركيَّيْن، لكنّها أبلغت واشنطن يومها عبر العُمانيين أنّها عازمة على الرّدّ بشكلٍ مُنضبط يحفظُ المحظور الأميركيّ بشأن عدم توسعة الحرب. وذلكَ لأنّ إسرائيل استهدفت القنصليّة التي تُعدّ أرضاً إيرانيّة. وهذا لا يُمكن أن يبقى دون ردّ ولو كان غير متناسب.
بعدما لمَسَ الأميركيّون الجدّيّة الإيرانيّة في مسألة الرّدّ، ورفضهم إدانة تل أبيب في مجلس الأمن الدّوليّ. أبلغت واشنطن طهران أنّها ستُدافع عن إسرائيل في وجه أيّ استهداف لها. وأنّها لن تُهاجم إيران بشكلٍ مُباشر ما لم تستهدف طهران القواعد الأميركيّة في العراق أو سوريا أو في أيّ نقطة في المنطقة.
هُنا السّابقة التّاريخيّة في عدم تشدّد أميركا في منع إيران من ضربِ إسرائيل بعدما كانت منذ عهد الرّئيس الأسبق باراك أوباما تلجمُ تل أبيب عن أيّ تحرّكٍ عسكريّ ضدّ منشآت إيران النّوويّة.
الليونة الأميركيّة تجاه طهران يردّها المصدر الأميركيّ إلى الآتي:
1- أرادت إدارة الرّئيس جو بايدن أن تتولّى مهمّة إسقاط الجزء الأكبر من المقذوفات الإيرانيّة في أجواء العراق وسوريا ولبنان والأردن والبحر الأحمر. وذلكَ في “رسالة تذكير” واضحة إلى نتنياهو وحكومته بأنّ الحماية الأميركيّة هي الأساس في بقاء إسرائيل منذ 1948 إلى اليوم. وأنّ واشنطن مُلتزمة حماية إسرائيل، لكنّها تفصلُ بين الكيان ونتنياهو. فإعلان بايدن في اتّصاله مع نتنياهو بعد الضّربة أنّ التصدّي للمقذوفات الإيرانيّة هو “انتصارٌ”، هو خطاب للنّاخبين اليهود في واشنطن. وتكون بذلك إيران قد اقترعت في صندوق بايدن الانتخابيّ.
2- لم تُنسّق تل أبيب مع واشنطن في شأن الضّربة التي وجّهتها إلى القنصليّة الإيرانيّة في دمشق، والتي كادت أن تُشعل نيران الحرب الواسعة في المنطقة. كانت واشنطن “تؤنّب” تل أبيب وتُعيدها إلى مرحلة التنسيق الكامل مع الإدارة الأميركيّة قبل أيّ خطوة من شأنها التّسبّب بحربٍ شاملة لا تُريدها الإدارة الأميركيّة التي لا تريد أن تغرق في مستنقع الشّرق الأوسط وتترك السّاحات الاستراتيجيّة في أوروبا وشرق آسيا لروسيا والصّين.
3- استدركَت واشنطن الرّسالة الإيرانيّة بالاستيلاء على سفينة شحنٍ مملوكة جزئياً لرجل أعمال إسرائيلي في مضيق هرمز صباح السّبت، أي قبل القصف بساعات.
كانَ مضمون هذه الرّسالة أنّ إيران جاهزة لإغلاق مضيق هرمز والبحر الأحمر. وبالتّالي تعطيل تجارة النّفط التي تُقدّر بـ35% من مجموع تجارة النّفط المنقولة بحراً. وهذا إن حصلَ، من شأنه رفع أسعار النّفط العالميّة التي تنعكس مباشرة على مزاج النّاخب الأميركيّ.
يقف الشّرق الأوسط على حافة الهاوية أكثر من أيّ وقتٍ مضى. وإن كانَ نتنياهو والحرس الثّوريّ يوقّعان الهجمات المُتبادلة بختم “الحكمة”، إلّا أنّها قد تخرج من أفواه المجانين، لتُشعل حرباً لا يريدها بايدن، لكنّه حتماً سيكون مُرغماً على المُشاركة فيها إن لم يستطع لجمها.
ابراهيم ريحان