كتب عوني الكعكي:
أثار وقف إطلاق النار بين “الحزب العظيم” وإسرائيل، جدلاً واسعاً في لبنان، حيث اعتبره مراقبون تنازلاً كبيراً من «الحزب» ومؤشراً على تراجع نفوذه في المشهدين العسكري والسياسي.
في المقابل، سعى حزب الله الى تصوير الاتفاق كنصرٍ من خلال بيان رسمي. ويأتي هذا المشهد في ظلّ الضربات القاسية التي تعرّض لها الحزب منذ أيلول (سبتمبر) الماضي، والتي استهدفت قياداته، بما في ذلك أمينه العام السيّد حسن نصرالله، إضافة الى مخازن أسلحته وأنفاقه، مما أثار تساؤلات حول مدى قدرة الحزب على استعادة قوته بعد سلسلة هذه الخسائر، خصوصاً بعد الثورة في سوريا. ولقد كنا دائماً مع مساعدة الشعب الفلسطيني والوقوف الى جانبه… لكن شرط ألا يكون الثمن تدمير لبنان.
وكان حزب الله فتح جبهة الجنوب في 8 تشرين الاول (أكتوبر) 2023، غداة الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، مع توسع دائرة العمليات العسكرية لتشمل مناطق متعددة، ما تسبب بخسائر بشرية ومادية كبيرة في لبنان.
وبالعودة الى الوراء، نجد أنه ومنذ ثمانينات القرن الماضي، بدأت إيران صياغة مشروعها الإقليمي في لبنان عبر إنشاء حزب الله الذي تحوّل بسرعة الى أداة استراتيجية لخدمة مصالحها في المنطقة.
ولم يقتصر هذا التدخل على الجانب العسكري فقط، بل امتد ليشمل مفاصل الدولة اللبنانية، مما ساهم في إضعاف مؤسساتها وتعميق أزماتها وإيصالها الى حافة الانهيار.
لقد أسس الحرس الثوري الإيراني حزب الله من رحم حركة «أمل» بعد انشقاق عنها عام 1982 لتعرف في البداية باسم «أمل الإسلامية» بدعم إيراني مباشر، اندمجت هذه المجموعة مع تنظيمات شيعية أخرى لتشكيل حزب الله.
وبفضل الدعم الإيراني، تمكن حزب الله من بسط نفوذه على إدارات الدولة اللبنانية، وتعميق الانقسامات السياسية والسيطرة على قرار السلم والحرب في لبنان، مما أدى الى توريط لبنان في صراعات إقليمية ذات عواقب وخيمة.
ومن الأمور التي قام بها حزب الله:
أولاً: التغلغل في مؤسسات الدولة. فمن حركة مقاومة لتحرير جنوب لبنان، تحوّل الحزب عبر السنوات، الى قوة سياسية وعسكرية مهيمنة على الدولة. فهو لم ينشأ كأي حزب سياسي، بل إنه لم يخضع للقوانين اللبنانية ولا يمتلك سجلات رسمية كحزب سياسي. ما جعله دويلة داخل الدولة، مع جيش موازٍ يفرض شروطه على الحكومات، ويقوّض سيادة الدولة لصالح مشروعه الخاص.
ثانياً: بدأت سيطرة الحزب بالتنامي منذ «اتفاق الطائف» الذي أنهى الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، مع أن اتفاق الطائف نصّ على حلّ كل الميليشيات وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني. غير أن الوصاية السورية آنذاك استثنت الحزب من نزع السلاح، بحجة أنه مقاومة، بسبب وجود أراضٍ جنوبية لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، مما أتاح للحزب التغلغل في مؤسسات الدولة والسيطرة على قرارها وسيادتها.
ثالثاً: لقد تبنى الحزب استراتيجية «نتحكّم ولا نحكم»، إذ سيطر على إدارات الدولة وعلى القرار اللبناني. وبرزت هذه السيطرة خلال الاستحقاقات الدستورية مثل تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية ما لم يُنتخب مرشح الحزب (ما حصل مع ميشال عون)، وقد كان الإصرار على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016 جاء نتيجة مذكرة التفاهم التي وقعها التيار الوطني الحر مع الحزب عام 2006.
رابعاً: لقد استطاعت إيران أن تفاقم حجم هيمنتها التدريجية على لبنان، بدءاً من محاولة استقطابية للكثيرين من الشيعة اللبنانيين، وأخذهم باتجاه المنحى الخاص بولاية الفقيه مع الملاقاة بين العمل السياسي والديني. باختصار: إن إيران نجحت في التغلغل الى لبنان عبر الحزب باستخدام الخطاب الطائفي، والمال والسلاح والنفوذ الاقليمي للنظام الايراني، وتعطيل الاستحقاقات اللبنانية و «فركشتها» فرضاً للشروط.
وهنا أتساءل: ماذا كانت نتيجة هذا التغلغل وهذا الاستقواء؟
أولاً: ابتعد لبنان عن محيطه العربي، وبيئته الاصلية ليدخل طرفاً قوياً في محور الممانعة… مما جعل الدول العربية الشقيقة تبتعد وتنأى بنفسها عن دعم لبنان في أزماته الكبيرة.
ثانياً: قوة حزب الله العسكرية مكنته من أن يفرض على كل البيانات الوزارية ضمان الغطاء والشرعية له، ما أدى الى تغييب السيادة اللبنانية.
ثالثاً: هذه الهيمنة حوّلت اللبنانيين -جميع اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم- الى رهائن في مشروع الموت والدمار والحروب التي لا تنتهي.
رابعاً: استيلاء حزب الله على قرار الحرب والسلم في لبنان من دون الرجوع الى الحكومة، أدخل لبنان في نفق مظلم لا يمكنه الخروج منه الآن إلاّ برفع تأثير إيران والحزب عن القرار اللبناني.
خامساً: كان لتسلح الحزب وتدربه أن جعله يتدخل في حروب إقليمية، وأن يشنّ حروباً من لبنان، من دون مشاورته السلطة اللبنانية أو القوى السياسية المتنوعة وبخاصة التي تعارض زج لبنان في معارك حربية.
سادساً: هذه الأعمال أدت الى زعزعة الاستقرار، وعزلة لبنان عن محيطه العربي، وورّطت لبنان في أزمات سياسية واجتماعية، إذ تحوّل لبنان من جامعة الشرق الى بلدٍ تدنّى فيه مستوى التعليم وصار التعليم عن بُعد…
سابعاً: لقد دعم الحزب النظام السوري الديكتاتوري في مواجهة الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 مطالبة بالحريات. إذ شارك آلاف من مسلّحيه الى جانب قوات النظام ضد الشعب السوري المظلوم.
ثامناً: لم يقتصر الحزب على استخدام سلاحه على الخارج بل وجهه الى الداخل اللبناني عام 2008. ولا ننسى ما اتهم به الحزب من اغتيال شهيد لبنان رفيق الحريري، إذ أدين سليم عياش من محكمة دولية معروفة.
تاسعاً: تخزين نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 بمرفأ بيروت الذي أدى تفجيره الى مجزرة كارثية… وهناك من يتهم الحزب بتعطيل التحقيقات.
عاشراً: يكفي ما تكبده لبنان من خسائر نتيجة الحرب الأخيرة، فقد قالت مجموعة البنك الدولي أن خسائر لبنان المالية والاقتصادية تعادل 3 أضعاف الناتج المحلي الاجمالي.
فكم من قرى مُسحت تماماً -ولا تزال تُـمسح حتى الآن.
وكم من شهيد قضى نتيجة الحرب (أكثر من 4000 شهيد حتى الآن).
وكم من جرحى زاد عددهم على الـ14000 جريح. هذا الى جانب ان هذه الحرب المستمرة أدّت الى تفاقم الأزمات. إذ ازدادت الضغوط على الاقتصاد المتدهور منذ سنوات.
كل هذا، ولا يزال لبنان يعاني الأمرّين وينادي.. من يتكفل بإعادة الإعمار؟
فهل يخرج لبنان من انهياره الحالي… ربما… ولكن من ينقذ هذا الوطن من حروبه المدمّرة والمستمرة؟
aounikaaki@elshark.com