بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
مفاجئاً كان تهديد زعيم ميليشيا الحزب حسن نصرالله لدولة قبرص في خطابه الأخير. بيد أنّ التدقيق في هذا الموقف يشير إلى كونه أكثر من مجرّد رفع لدرجات التعبئة أو إضافة نقطة توتّر أخرى إلى خليط الصراع في الشرق الأوسط… فماذا أراد نصر الله من هذا التهديد؟
موقف نصرالله وتهديده قبرص خطوة مدروسة ضمن استراتيجية جيوسياسية متعدّدة الأوجه تعكس شبكة معقّدة من التحالفات الإقليمية والمصالح الاقتصادية والضرورات الاستراتيجية، التي يخدمها الحزب.
تهديد قبرص، بأبعاده الهجومية، يندرج أوّلاً في سياق محاولات عزل إسرائيل في المنطقة، من خلال إبراز الأثمان المترتّبة على أيّ دولة تدعم إسرائيل أو تتعاون معها أو تتميّز علاقتها بها بأيّ مستوى من مستويات الإيجابية.
فهو يبعث رسالة استراتيجيّة لإسرائيل وحلفائها، مفادها أنّ الحزب يمتلك القدرة والاستعداد لتوسيع النزاع إلى ما وراء الحدود التقليدية، ليطال أصدقاء إسرائيل أيضاً. يجدر الانتباه هنا إلى ما قاله المرشد الإيراني علي خامنئي من أنّ هجوم 7 أكتوبر 2023، كان ضرورياً للمنطقة. ليضيف في تغريدة لاحقة وباللغة العبرية: “إنّنا نشهد بداية النهاية للكيان الصهيوني. هذا الكيان يذوب تدريجياً أمام أعين العالم”. سبقه إلى ذلك تصريح لقائد حماس في غزة يحيى السنوار هدّد فيه “بعزل إسرائيل عزلاً عنيفاً”.
وما نهاية إسرائيل، بحسب هذا المنطق، إلّا عن طريق عزلها دوليّاً وضرب كلّ المشاريع الرامية إلى تطبيع العلاقات وتعميق سبل التكامل السياسي والاقتصادي الإقليمي معها.
تسميم العلاقات الأوروبيّة الإسرائيليّة
يراهن نصرالله على أنّ مجريات الحرب التي أدّت إلى توتير العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ستؤدّي من خلال التهديد بوصول نيران غزة إلى الاتّحاد الأوروبي عبر قبرص، إلى تعقيد الدبلوماسية الإقليمية والدولية بشأن غزة ولبنان وتسميم العلاقات الأوروبية الإسرائيلية أيضاً، ومفاقمة التناقض بين إسرائيل وحلفائها الدوليين على نحو غير مسبوق.
أمّا في الأبعاد الدفاعية لتصريحات نصرالله، وهي الأهمّ، فيأمل الحزب أن تفضي تهديداته إلى إجبار الاتحاد الأوروبي على لعب دور أكبر في إيجاد الحلول السياسية لحرب غزة، وفي توقيت ضاغط على الإسرائيليين سيسمح لحماس والحزب وإيران بادّعاء الانتصار. وعبر التلويح بتوسعة نطاق النزاع القائم، يرمي نصرالله إلى جعل حرب غزة مسألة تتعلّق بأمن واستقرار أوروبا، وليس مجرّد مناوشة إقليمية تقليدية، كما جرت العادة.
إلى ذلك، لا يمكن عزل تصريحات نصرالله عن الاستراتيجية الإقليمية لإيران، وأهدافها الإقليمية الأوسع. فتوظيف استقرار قبرص، في معادلة النزاع مع إسرائيل، يساعد إيران على إظهار قوّتها ونفوذها، وينسجم مع ما أبدته من استعداد للتدخّل العسكري المباشر، كما دلّت على ذلك هجماتها الصاروخية غير المسبوقة على إسرائيل في 13 نيسان الفائت.
توسيع نفوذ إيران البحريّ
التلاعب باستقرار حوض شرق المتوسّط، من خلال تهديد قبرص، يتلاقى مع سعي إيران المستمرّ لبسط أوسع مساحة نفوذ على الطرق البحرية في الشرق الأوسط وعلى عموم المنطقة الممتدّة بين بحر العرب والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.
فقبل نصرالله، بأسابيع قليلة، أعلنت ميليشيا الحوثي، على لسان زعيمها عبد الملك الحوثي، أنّها نفّذت لأوّل مرّة هجومين في البحر المتوسط، ضدّ سفن مرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة من دون تقديم أيّ تفاصيل بهذا الشأن. ويقرّ الأميركيون أنّ ميليشيا الحوثي تمتلك مسيّرات وصواريخ باليستية قادرة على الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وتوسيع نطاق الضربات على سفن الشحن خارج البحر الأحمر وخليج عدن.
وعليه تسعى إيران، من خلال توظيف تهديدات وإمكانيات الحزب والحوثي، إلى تسويق قدرتها على التأثير في الديناميّات الإقليمية والدولية المتعلّقة بأيّ ترتيبات سياسية، بعد حرب غزة، بصرف النظر عن المصير السياسي والعسكري لحركة حماس.
البُعد النّفطيّ لتهديد قبرص
في هذا السياق، يضيف تطوير احتياطيات الغاز في قبرص، بالتعاون مع مصر واليونان وإسرائيل والأردن وفرنسا وإيطاليا وفلسطين، والإمارات والولايات المتحدة، (منتدى غاز شرق المتوسط) بُعداً اقتصادياً واستراتيجياً جديداً، وعنصراً إضافياً إلى أسباب قلق إيران بشأن طموحاتها الإقليمية.
وما تهديدات نصرالله إلا إشارة إلى كلّ اللاعبين بأنّ إيران جاهزة لممارسة الضغط وتعطيل التحالفات الناشئة ومشاريع الطاقة التي قد تعارض مصالحها، أو تضعف حضورها في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط.
لكنّ تهديدات نصرالله الأخيرة لقبرص مقامرة عالية المخاطر، تجعل من هجوم 7 أكتوبر مجرّد مثال صغير على ما يمكن للميليشيات المعبّأة والمجهّزة أن تقوم به لضرب الاستقرار الدولي. أمّا الأهداف الردعيّة للمواقف الأخيرة لنصرالله فهي أهداف سريعة الذوبان بإزاء ردّات الفعل التي ستستدرجها الاستراتيجيات المضادّة التي ستحفّز عليها عند الأوروبيين والأميركيين والإسرائيليين، وحتى العرب.
رهانات الحزب… هل تنجح؟
يراهن الحزب على ضعف الموقف الدولي عامةً، بسبب انشغال الدول الكبرى بتطوّرات الحرب الروسيّة الأوكرانية، والتطوّرات الجيوسياسية المتمحورة حول الحراك الأوسع لكلّ من روسيا وكوريا الشمالية والصين وإيران، لفرض نظام دوليّ جديد.
كما يراهن على الانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية، وارتباك إدارة الرئيس جو بايدن حيال ملفّ حرب غزة. ويوظّف كلّ ذلك لتعزيز قناعته أنّ بوسعه النجاة بتهديداته من دون أن يواجه ردّ فعل دوليّاً حاسماً وفوريّاً.
لن ينظر المجتمع الدولي لتهديدات الحزب، بصفتها مناوشة لفظية تتعلّق بقبرص أو جزءاً من استعراض على هامش الاشتباك مع إسرائيل، بل باعتبارها تطوّراً جيوسياسيّاً وأمنيّاً يرتبط بزعزعة استقرار واسع النطاق وتعطيل مشاريع اقتصادية واستراتيجية ذات تداعيات بعيدة المدى.
نديم قطيش