تتنافس الولايات المتحدة والصين على النفوذ في منطقة الهند – الهادئ؛ وروسيا تتحدى النفوذ الأمريكي (والقوى العظمى الاستعمارية الأوروبية سابقاً) في إفريقيا التي للصين موطئ قدم فيها. وبكين من جهتها تقضم من نفوذ موسكو في وسط آسيا؛ والولايات المتحدة في مواجهة مع روسيا من خلال دعمها لكييف.
هذه بعض الساحات التي تتنازع فيها القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين. لكن يخيل أن الشرق الأوسط هو الساحة المركزية التي تلتقي فيها – وتتضارب مصالح هائلة تمنح إطاراً واسعاً عالمياً حقاً للمواجهات الحالية في المنطقة.
موسكو عادت كعامل عسكري إلى الشرق الأوسط في 2015، بتدخلها في الحرب الأهلية في سوريا إلى جانب نظام الأسد. وهكذا نالت ميناء في البحر المتوسط (طرطوس) ومطاراً (حميميم) أصبحا لبوتين بوابة إلى المنطقة. كما أن التدخل أتاح لموسكو الحصول على قدرة وصول إلى حقول النفط السورية ليصبح لاعباً إقليمياً ينبغي مراعاته، سواء في المدى البعيد (مثلاً بتسوية مستقبلية بين القوى المختلفة في سوريا)، أم في المدى الفوري، مثلاً أن تكون على الخط حين تكون دول معينة معنية بالهجوم على ذخائر إيرانية في سوريا.
منذ تورطت في اجتياح أوكرانيا، اضطرت موسكو لتوثيق العلاقات مع طهران. ووفرت الجمهورية الإسلامية لروسيا آلاف المُسيرات التي استخدمت للهجوم على أوكرانيا. وهي مشاركة في إقامة إنتاجها في روسيا. موسكو، من جهتها، قدمت لإيران معلومات استخبارية، وقدرات سايبر وطائرات تدريب، وحسنت دفاعها الجوي. كما أن روسيا توفر لطهران مظلة دبلوماسية في مجلس الأمن، وأصبحت إيران محوراً ضرورياً في تجاوز العقوبات الغربية على موسكو. وخططت روسيا، التي تكدرت علاقاتها مع إسرائيل منذ 7 أكتوبر، لنقل صواريخ إلى الحوثيين.
رغم أن الاثنتين لا تزالان تتنافسان في مجالات معينة (مثلا على تصدير النفط)، ورغم أن التردد الروسي في تزويد آية الله بكل وسيلة قتالية (كي لا تفقد التفوق التكنولوجي ولا تغضب الشركاء في الخليج)، أصبحت طهران شريكاً لا بديل له. ليس صدفة أن سارع سكرتير مجلس الأمن الروسي شويغو إلى طهران في ذروة انتظار هجوم إيراني ضد إسرائيل: فالرسالة العلنية كانت الامتناع عن المس بالمدنيين، لكن حسب أحد التقديرات من خلف الكواليس، حذر شويغو أيضاً من تداعيات رد إسرائيلي يحدث رداً تسلسلياً خطيراً من نظام الصديق.
بين هذا وذاك تواصل روسيا تقاليد الدعم للمنظمات الفلسطينية، ومنذ 7 أكتوبر استضافت وفود حماس عدة مرات. ومع ذلك، جاء الدعم من خلال مناكفة الولايات المتحدة التي تعرض كذات معايير مزدوجة (“تدعم أوكرانيا، وتدير وجهها عن الفلسطينيين”) ولهذه الرواية الكثير من المشترين في الجنوب العالمي.
إذا كانت روسيا تركب جزئياً على التراث الجغرافي – السياسي السوفياتي، فإن بكين لاعبة عالمية جديدة نسبياً، ودوافعها الأساس للتدخل في الشرق الأوسط هي التجارة والطاقة. في السنوات الأربع الأخيرة، وجهت الصين مقدرات هائلة إلى المنطقة: ودليل ذلك أنه في 2021 و2022، كانت معظم الاستثمارات في إطار المشروع الاقتصادي – السياسي “الحزام والطريق” قد وصلت إلى الشرق الأوسط (وإلى شمال إفريقيا)؛ والصين هي الشريك التجاري الأكبر لمصر والعراق ودول مجلس التعاون في الخليج؛ ونصف استيراد النفط من جانبها يأتي من الخليج. كما يوجد تعاون ذو مغزى كبير مع إيران: بكين وطهران وقعتا على اتفاق استراتيجي في إطاره تستثمر الصين في إيران 400 مليار في غضون 25 سنة. إلى جانب التعاون مع طهران، تطور الصين أيضاً علاقات قريبة مع الرياض، مدنية وعسكرية على حد سواء (مثلاً في نقل صواريخ باليستية وإقامة مشروع مُسيرات في المنطقة).
تتخذ بكين نهج منع الاحتكاكات وخلق محيط آمن لتحقيق مصالحها، تأتي – بخلاف الولايات المتحدة – دون طرح شروط قيمية مثل الحفاظ على حقوق الإنسان أو حقوق الأقليات. غير أن لهذا النهج ثمناً قيمياً: بكين لا تقاتل الحوثيين بل توصلت إلى تسوية معهم: وبعد مذبحة حماس، لم تشجبهم، وسارت على الخط مع الدول العربية للمطالبة بمؤتمر سلام، وشجبت الدخول إلى رفح، بل ودافعت عن حق الفلسطينيين في “لاهاي”.
كلما حاول رؤساء الولايات المتحدة تقليص الوجود في الشرق الأوسط للتركيز على ساحات أخرى وعدم استهلاك المقدرات، كانت المنطقة تلاحقهم. فقد اضطر أوباما لقتال “داعش” عقب حرب العراق الثانية، وأقر ترامب هجمات في سوريا وتصفية سليماني. وقال بايدن محور المواجهة بعد 7 أكتوبر، ودفع على هذا بذخائر عسكرية كي يدافع عن إسرائيل.
حسب التقديرات، نحو 46 ألف جندي ورجل حراسة أمريكيين يرابطون في 11 دولة في المنطقة. في قطر القيادة الوسطى الأمريكية، وفي الكويت القوة الأكبر. ويكاد يكون غنياً عن الإشارة أن للولايات المتحدة تعاوناً أمنياً واسعاً مع إسرائيل.
الوجود الأمريكي هنا نابع من الالتزام بأمن الحلفاء، لكنه مهم أيضاً للحفاظ على الهيمنة العالمية، خصوصاً في عالم ليس أحادي القطب مثلما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. المنطق الذي يوجه واشنطن هنا بسيط: ازدهار الولايات المتحدة يرتبط بأمن المسارات التجارية، وهذا الأمن ليس ممكناً بدون قوة واحدة تحرص عليه. وذلك لأن البديل، مع وجود لاعبين إقليميين يخضعون لأنفسهم، هو حرب الكل ضد الكل – والدليل، كل الأحداث التي جلبت الولايات المتحدة للعودة إلى الشرق الأوسط عندما حاولت تقليص وجودها.