د. محيي الدين الشحيمي
«أساس ميديا»
بين قمّتي “النورماندي” 2004 و2024 عقدان، مليئان بالآلام اللبنانية والأوجاع السياسية، والدماء التي لا تنتهي. في 2004 اجتمع الرئيسان الأميركي جورج بوش، والفرنسي جاك شيراك، واتفقا على إخراج سوريا من لبنان، ونزع سلاح حزب الله، فكان القرار 1559. وفي 2024 يجتمع الرئيسان الأميركي وبايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال أعنف حرب تشنّها إسرائيل على فلسطين ولبنان منذ تأسيس الكيان الصهيوني… فما الذي سيصدر عن هذه القمّة؟ وهل ستكون مقدّمة لسنوات مليئة بالآلام والأوجاع والدماء، والقرارات القاسية؟
مدينة “النورماندي” الفرنسية هي التي شهدت الإنزال الأميركي التاريخي، بـ72 ألف جندي، في 6 حزيران 1944، حوّلوا مسار الحرب العالمية الثانية من هزيمة شبه محقّقة لأوروبا على يد أدولف هتلر وجيشه الألماني، إلى “انتصار الحلفاء” في تلك الحرب والقضاء على هتلر ونظامه.
وفي الذكرى الـ80 لهذا الانتصار الذي أسّس لأوروبا الحالية، المزدهرة والديمقراطية، يجتمع الرئيسان، وهذه المرّة لبنان أيضاً على أجندتهما، كما كان قبل 20 عاماً. أجندة تمتلىء بالحروب هذا العام، من أوكرانيا الجريحة التي أنشب فلاديمير بوتين أظفاره في خريطتها، إلى غزّة المنكوبة والتي تتعرّض لإبادة جماعية بشهادة القضاء الدولي، وصولاً إلى لبنان الذي أحرقت إسرائيل جنوبه الأخضر، وجعلت قراه ومدنه خراباً وسوّتها بالأرض. إضافة إلى مخاوف “الغرب” من الصين، والمشاكل الأوروبية الداخلية، وليس انتهاءً بالفّ الإيراني، واحتمالاته النووية.
20 عاماً… ولم يتغيّر شيء؟
- في 2004 كانت أميركا منغمسة في المنطقة حتّى أسنانها. كان لبنان اسماً يومياً على لسان الرئيس الأميركي. ولم يكن قد مرّ أكثر من سنة على احتلال جورج بوش العراق وإسقاطه نظام صدام حسين.
- أما أوروبا فقد أسرفت في عجزها. ونمت فيها السياسات الشعبوية. وتنامى اليمين المتطرّف، المطالِب الأوّل بفرط العقد الاتّفاقي الأوروبي. وباتت مليئة باختلافات وخلافات حول الأمن والاجتماع والقومية، وقضايا مكافحة الهجرة واللجوء والجرائم المنظّمة والاتّجار بالبشر. تضاف إليها مشاكل التضخّم الاقتصادي المتربّعة على عرش الاقتصاد العالمي، وتراجع قيمة العملات الوطنية. يتخلّل هذه المشاكل الخطر والقلق المتزايد من موجات الركود التصاعدية وسلبية التعامل مع إخفاقات سلاسل التوريد التشاركية.
- في فرنسا كان هنا شيراك، آخر الديغوليين الفرنسيين المؤسّساتيين. الرقم الصعب في يمين الوسط الفرنسي وحامل لواء الجمهورية. صديق العرب الذي وقف بوجه بوش الابن ضدّ حربه على بغداد. فيما هي اليوم مع ماكرون، الفرنسي الهويّة والقوميّ الأوروبي الهوى، والليبرالي الاقتصادي والمحافظ الإداري. يحاول انتهاج الديغولية وتحصين الجمهورية الخامسة، على الرغم من صعوبات عدم توافر ظروفها الفرنسية والأوروبية والدولية. يجتهد في إعادة الإدارة الفرنسية إلى دورها المؤثّر والريادي عالمياً، المؤثّر شرق أوسطيّاً، القيادي أوروبياً، وخاصة من بوّابة “الجيش الأوروبي” وعتبات الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذاتي.
- كان يوجد في سوريا دولة، لكنّها اليوم نظام ودولة متهالكة. يوجد على أرضها مجموعة من الدول. داخلها مختلّ ديمغرافيّاً وحدودها مفكّكة ومفتوحة. تسعى سوريا اليوم إلى إعادة تعويم نظامها جزئياً، عبر مستوى معيّن من التطبيع العربي والأوروبي.
- تغيّرت كذلك ديناميات إيرانية كثيرة في السياسة والمجتمع. أضحت إيران لاعباً إقليمياً مؤثّراً. يمتدّ نفوذها عبر نظرية تصدير الثورة والأذرع. عمّت كلّ أرجاء المنطقة. حلّت محلّ سوريا في لبنان. تحاول الانتقال من مرحلة الصدام الإقليمي والعالمي إلى مرحلة التعاون الإقليمي، وخاصة مع الدول العربية، والمشاركة الدولية لكي تكون جزءاً من أيّ طاولة نفوذ ونظام معدّل.
ماذا تغيّر في لبنان؟
- كان لبنان في 2004 على مشارف نهاية عهد الرئيس إميل لحود. طبخ له بشّار الأسد حينها على نار هادئة خريطة التمديد الذي صاحب وجرّ من بعده كلّ المآسي. أمّا اليوم فلبنان غارق في شغور رئاسي، وتهالك اقتصادي ومصرفي ومالي، وحرب مدمّرة تكاد تتجاوز الجنوب إلى بيروت، بعد صيدا وإقليم الخرّوب والبقاع وبعلبك… وتزقزق عصافير السياسة المحلّية، نقلاً عن صقور ونسور السياسة العالمية، عن تمديد إضافي للشغور الرئاسي، إلى 2026، موعد الانتخابات. ما يهدّد وجود الكيان اللبناني والدولة ودور لبنان.
- وقد شبّه المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان حين كان وزيراً للخارجية في العهد الماكرونيّ الأوّل لبنان بـ”سفينة تايتانيك تغرق”… والبحّارة يعزفون. وقبل أسابيع حذّر من “نهاية لبنان السياسي”.
- كان لبنان آنذاك عالقاً في مرحلة الاستعصاء السوري الرافض كلّياً التنفيذ الصريح والصحيح للدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني (الطائف) بالانسحاب منه. كانت الشقيقة تريد “وفاقاً وطنياً لبنانياً” بنكهة سورية فقط. أمّا اليوم فهو قابع في نفق التصلّب الإيراني الرافض كلّياً عبر وكيله الحزب وحلفائه الممانعين تطبيق الدستور والقرارات الدولية، والإفراج عن المرونة الدستورية اللبنانية الحقيقية التي عُطبت بالأثلاث المعطّلة والطموحات المثلّثة عقب اتفاق الدوحة 2008.
- يغرق لبنان اليوم في الزيارات والمبادرات الدبلوماسية، واللقاءات السياسية المحلّية والإقليمية والدولية.
- تبرز بين حين وآخر احتمالات يمكن أن تقود إلى التقطت القوى الداخلية بعض المؤشّرات الدولية والإقليمية، مدعومة بنشاط “اللجنة الخماسية” المحفّز والداعي إلى أيّ خطوة توافقية من شأنها أن تؤدّي إلى تسوية لبنانية وفق مسلّمة الحفاظ على النظام السياسي واحترام الدستور والقوانين والقرارات الدولية.
- أما الدول الراعية والمؤثّرة في لبنان فتمرّ كلّها بفترات عصيبة وغير واضحة. انطلاقاً من إيران التي تتحضّر لإجراء الاستحقاق الرئاسي المفاجئ، بعدما انتقلت مباشرة من التشييع السياسي إلى التشريع الرئاسي عبر المشهديّات الاستفتائيّة الداعمة لنظام ثورتها أثناء التشييع. وأميركا ستدخل في “كوما الانتخابات قريباً.. ما يفتح نافذة خلال الأسابيع المقبلة لحصول لبنان على فرصة حقيقية للوصول إلى خرق رئاسي.
ماذا تريد فرنسا من لبنان؟
- لا تريد الإدارة الفرنسية عودة لبنان إلى صيغة ما قبل لبنان الكبير 1920.
- لا تريده قطعة أرض جغرافية طبيعية مع أنظمة وتشكيلات مثل القائمقامية والمتصرّفية، أو كيانات إدارية منفصلة.
- لا تريد له خسارة كيانيّته الوجودية ورسالته الجوهرية وشراكته التعايشية مع مختلف مكوّناته.
- لا تريد إلا دعم المجتمعات اللبنانية التي انضوت تحت عباءة المناصفة والشراكة والحيادية، وتحفيزها ودفعها إلى الأمام نحو دولة مواطنة تامّة.
- لا تريد فرنسا أن يعود لبنان ملاذاً طبيعياً جغرافياً تقطنه أقلّيات طائفية متشاركة حيناً ومتصادمة حيناً آخر، معرّضاً للضمّ أو حتى للبلع أو لأيّ أمر آخر.
ترتبط فرنسا مع لبنان بعلاقات وثيقة تعود إلى القرن السادس عشر. خبرته في كلّ ظروفه. كان لها جهد مع أصحاب النفوذ الدولي في ولادة كيانه الحديث ودولته المعاصرة. تعلم أنّه مجتمع مركّب قوامه التوافق والتسويات المتعاقبة. يقوم في أبرز معاييره على التجانس بين مكوّناته الاجتماعية والثقافية، وتنافس شرائح المجتمع المتعدّدة على مبدأ الوفاق تحت مظلّة الدستور والحفاظ على نظامه السياسي.
لم تستسلم الإدارة الفرنسية أبداً. لن تتوقّف عن مساعدة لبنان، فهو يمثّل حالة خاصة. تحترم تعدّديّته التكوينية. ذهب لودريان، لكنّه عائد من جديد. فهل تكون “النورماندي 2024” شبيهة بـ”النورماندي 2004″؟ أما تفتح باباً للهدوء والاستقرار بعد 20 عاماً من الأوجاع التي لا تنتهي؟
محيي الدين الشحيمي