بقلم د.سمير صالحة
«اساس ميديا»
عندما تعلن أنقرة على لسان وزير خارجيّتها هاكان فيدان أنّ نظيره الروسي سيرغي لافروف طلب منه الإسهام في فتح صفحة جديدة من الحوار الروسيّ السوريّ، فهذا يعني أنّ تركيا ستكون موجودة أمام أكثر من طاولة حوار وتفاوض بين موسكو ودمشق، قد يكون في مقدَّمها نقاشات مصير بشار الأسد الفارّ إلى روسيا محمّلاً بما هبّ ودبّ.
احتفل الشعب السوري قبل شهرين بنجاح ثورته على نظام بشار الأسد. هرب الرئيس المخلوع إلى روسيا أحد أكبر داعميه سياسياً وعسكرياً طوال سنوات الثورة. منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حقّ اللجوء الإنساني على الرغم من أنّ هذا التوصيف مبتكر ومطّاط بحسب المصالح والمزاج السياسي. فهل تستجيب روسيا لمطلب تسليم الأسد؟ وما هي العوائق أمام تسليمه؟ وما هو الثمن الذي قد تطلبه موسكو مقابل خطوة بهذا الاتّجاه؟ وإلى متى ستتمكّن “إنسانيّة” روسيا من الصمود أمام مطلب الشعب السوري والمجتمع الدولي بتسهيل تسليمه ومحاكمته على الجرائم التي ارتكبها طوال عقدين من الزمن؟
أجلست موسكو اللاعب السوري في حضنها لعقود طويلة. كانت الأقوى على الأرض في سوريا بعد اندلاع الثورة عام 2011. سقوط نظام الأسد تركها أمام ورطة البحث عن خيارات بديلة للخروج من المأزق. كان هدف تسهيل هروب حليفها وأسرته وكبار أعوانه إلى روسيا محاولة الإمساك بأوراق مقايضة سياسية وأمنيّة واقتصادية مع السلطة السياسية الجديدة في دمشق والمجتمع الدولي. لكنّ موسكو اكتشفت أنّها أخطأت، وأنّ الأسد يتحوّل إلى عبء كبير عليها لا تعرف كيف تتخلّص منه، لأنّ الرياح غيّرت مجرى السفن والأمور تذهب باتّجاه معاكس، فقيادة أحمد الشرع قد ترجّح تركه في الحضن الروسي ليكون ورقة تُلعب ضدّ بوتين.
أولويّة موسكو
قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إنّ نظام البعث في سوريا مسؤول عن مجازر مروّعة، وسينال مرتكبوها العقاب. تحدّث إردوغان بعد عودة وفد روسي رفيع يرأسه نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والممثّل الخاصّ للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف من دمشق.
من الصعب أن يعود التفاعل الروسي السوري إلى سابق عهده. أولوية موسكو هي معرفة مصير القواعد الروسية في سوريا، ومحاولة إيجاد صيغة تعاقدية سياسية اقتصادية أمنيّة جديدة. بينما أولويّة دمشق هي انتزاع الكثير من الجانب الروسي لموازنة حوارها مع الغرب وواشنطن تحديداً. ملفّ تعويض سوريا عن الخسائر التي تسبّبت بها روسيا طوال 13 عاماً سيطغى على مسألة المساومة على رأس الأسد التي تلوّح بها موسكو. دمشق الجديدة تريد حتماً استرداد الأسد لمحاكمته. لكنّ المقايضة ليست بهذا الاتّجاه مع الجانب الروسي: أعيدوا لنا الأموال التي سلبها الأسد وشاركوا مع إيران في تحمّل تعويضات الأضرار التي تسبّبتم بها، والأسد سيكون هديّتكم المجّانية لنا عندما يزول مفعول إنسانيّة لجوئه.
حصلت روسيا في عام 2017 على عقد إيجار مدّته 49 عاماً مكّنها من الوجود في ميناء طرطوس الذي تحوّل إلى المركز اللوجستي البحري الروسي في البحر الأبيض المتوسّط. لا تقلّ قاعدة حميميم أهمّية، فهي تحوّلت إلى خطّ إمداد رئيسي للقوات الروسية في المتوسّط وشمال إفريقيا. استردادهما من روسيا يعني تضييق الخناق على تمدّدها ونفوذها في المتوسّط الذي ستجد صعوبة في استبداله بالسواحل الليبية حيث تطاردها واشنطن عن قرب.
لا تعني نهاية المشوار بالضرورة نهاية الطريق بالنسبة لروسيا في علاقتها مع سوريا. هي نهاية حقبة ومرحلة ولا بدّ أن تكون هناك بداية جديدة تحرّكها المتغيّرات والظروف المحيطة والعوامل الداخلية والخارجية المؤثّرة. نظام البعث وحكم أسرة الأسد هما اللذان انتهيا في سوريا بعد 6 عقود، وموسكو لن تفرّط بحاجتها الاستراتيجية إلى سوريا. طلب الشرع من روسيا تسليم الرئيس المخلوع الذي هرب إليها. لكنّ دمشق تقول إنّها تريد أيضاً من روسيا التي دعمت الأسد طوال سنوات الثورة “إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري، من خلال تدابير ملموسة، مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي.. استعادة العلاقات يجب أن تعالج أخطاء الماضي وتحترم إرادة الشعب السوري وتخدم مصالحه”.
ترحيل أو تسليم
يعرف الأسد جيّداً أنّه أضعف الأوراق في الصفقات والمقايضات التي ستدور بين الجانبين.
مهما حاولت موسكو تبرير توفير “الضيافة” لبشار الأسد ستبقى أعين السوريين والمجتمع الدولي مشدودة نحو متّهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وهجمات وحشية ضدّ المدنيين طوال الحرب التي استمرّت 13 عاماً، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه.
صحيح أنّ موسكو تتطلّع صوب الحفاظ على علاقات متعدّدة الجوانب مع سوريا الجديدة. وصحيح أنّ الخارجية الروسية تردّد وهي تفتح أبواب موسكو أمام الأسد أنّه “قرّر ترك منصبه الرئاسي وغادر البلاد، وأعطى تعليماته بانتقال السلطة سلميّاً”. لكنّ الصحيح هو تمسّك روسيا بورقة الأسد الذي قدّم لها الكثير من الاتّفاقات والصفقات الاستراتيجية على حساب ما يقوله ويريده الشعب السوري، وأنّ عليها تحمّل تبعات وارتدادات خياراتها السورية، حتى لو أعلنت أنّ إقامة الأسد وأسرته هي استثنائية لأسباب إنسانية، وأنّه لا يحظى بلجوء سياسي حسب تعريفات وتوصيفات القانون الدولي، وهو ما يعني أنّ ترحيله أو تسليمه أو مطالبته بمغادرة البلاد ليست مستبعدة.
ذاكرة المجتمع الدولي هي في مكان آخر، وتتقاطع مع ما وصفه الأمين العامّ للأمم المتحدة الأسبق بان كي مون وهو يتحدّث عن الهجوم الذي وقع في آب 2013، بضواحي دمشق، “أسوأ استخدام لأسلحة الدمار الشامل في القرن الحادي والعشرين”.
أعلن بوتين في منتصف كانون الأوّل المنصرم أنّ سقوط الأسد لا يشكّل هزيمة لروسيا، لكنّه يعرف أكثر من غيره أنّ تسليم الأسد أو إسقاط ورقته مطلب سوري لا تراجع عنه، إذا ما كانت موسكو تبحث عن بدائل تمكّنها من الانفتاح على الإدارة السوريّة الجديدة.
من المحتمل أن تطالب موسكو القيادة السورية الجديدة بعدّة تنازلات، مثل ضمان بقاء النفوذ الروسي في سوريا والحفاظ على العقود الاقتصادية الاستراتيجية وتجيير المشهد السوري لمصلحتها في العلاقة مع الغرب. لكنّ عليها أن تقدّم أوّلاً تنازلات كبيرة، وأن تدفع ثمن حماية الأسد حتى الثامن من كانون الأوّل المنصرم وتوفير الغطاء الدولي والأممي له تحت سقف الأمم المتحدة، والتخلّي عن الشريك الإيراني في سوريا والمنطقة، لأنّ التوازنات الإقليمية الجديدة تفرض عليها ذلك.
تعويضات وتنازلات
أعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة أنّه “عندما قرّر بشار الأسد الذهاب إلى روسيا، كان يعتقد أنّ من المستحيل علينا التوصّل إلى اتّفاق مع الروس”. وتابع أنّهم منفتحون على استمرار الوجود العسكري الروسي في البلاد ما دام يخدم مصالح سوريا. يترك أبو قصرة الأبواب مشرّعة أمام حوار تفاوضي حقيقي مع موسكو يعطي دمشق ما تريده من تعويضات وتنازلات وفرص استراتيجية تساهم في بناء سوريا الجديدة.
روسيا التي تفاهمت مع أنقرة مساء 27 تشرين الثاني على أنّ بقاء الأسد في السلطة لم يعد يعنيها، لن تتردّد في الذهاب إلى طاولة تفاوض وتفاهم مع القيادة السورية الجديدة إذا ما كانت مصالحها الاستراتيجية تستدعي ذلك.
هناك العديد من السيناريوهات التي يمكن أن تنتهجها روسيا للخروج من الورطة التي قد تسبّبها معضلة الأسد. الاحتمال الأكبر هو البحث عن الحلّ الذي يوازن بين إعطاء القيادة السورية الجديدة ما تريده لتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية، ووصول موسكو إلى قناعة أنّ بقاء الأسد عندها يشكّل عبئاً على مصالحها في سوريا والمنطقة.
د.سمير صالحة