كيف ستتلقّف المعارضة نقمة العلويّين على الأسد؟

بقلم وليد شقير

«أساس ميديا»

أخيراً، غادرنا صاحب الضحكة البلهاء، والقرارات الخرقاء والخطابات الجوفاء والأفكار الهوجاء، التي حوّلت قلب العروبة النابض إلى صحراء… انسحب بعدما جعل سوريا، الدولة المحوريّة، بحراً من الدماء، وتعاطى مع النصائح بتعديل نهجه بأذن صمّاء.

من المؤكّد أنّ سوريا ستحتاج إلى وقت طويل للتعافي. يتوقّف الأمر على مدى نضج قوى المعارضة السورية بحيث لا تقع مجدّداً فريسة الخلافات الداخلية، وسط بوادر الانقضاض الإسرائيلي. تسبُّبُ بشار الأسد بتقطيع سوريا لخمس مناطق نفوذ دولية وإقليمية، يبقي على المخاوف من استمرار حريق بلاد الشام. فمن وكيف سيُملأ فراغ انهيار الدور الإيراني وأفول الأحلام الإمبراطوريّة لطهران فيها وفي لبنان ما دام هذا هو الهدف الرئيس لما حصل؟ 

 لا أجوبة على معظم الأسئلة التي رافقت ولحقت الزلزال الكبير في سوريا وما سيتبعه. فحِممُ البركان بعد التحوّلات التي فاقت سرعتها الخيال تطرح تحدّيات على الإقليم والحسابات الجيوسياسية للدول الكبرى.

بانتظار اتّضاح مدى قدرة السوريين في الداخل على صوغ التوافقات، سترتسم من سوريا صورة المنطقة لسنوات مقبلة. خروج محور الممانعة، بقطع طريق طهران بغداد دمشق بيروت من المعادلة الإقليمية، يحمل إيران على التراجع داخل حدودها. وما اصطُلح على تسميته “تفكيك البنى التحتية” للتمدّد الإيراني في المنطقة ينتظر أن يتبلور انخفاضاً في وزن طهران الإقليمي.

التّحدّي الداخليّ: المرحلة الانتقاليّة

لكنّ التحدّي الأبرز داخليّ يبدأ باختبار قابلية مكوّنات المجتمع السوري المتنوّع لصوغ حدّ أدنى من التوافقات التي حال دونها النظام منذ 2011. يستدعي الأمر بداية إحجام بعض الرموز المعارضة عن التسرّع. فجر الأحد صدر بيان رقم 1 مذيّلاً بتوقيع “المجلس الوطني الانتقالي” يزفّ للسوريين سقوط النظام. وعند السؤال عن الشخصيّات التي يتشكّل منها المجلس لقيادة المرحلة الانتقالية، نفى عدد من المعارضين علمهم بهم، على الرغم من مضمونه المتّسق مع أهداف الثوّار وأهمّها المصالحة الوطنية… فالتركيز جرى، فور سقوط دمشق وهرب الأسد، على الطلب من الحكومة السورية القائمة برئاسة محمد الجلالي تسيير شؤون الدولة والوزارات. ومع احتمال صدور المزيد من البيانات والمواقف باسم الثوّار، يبدو أنّ على وسائل الإعلام ألّا تأخذ إلا بتلك التي لها عنوان واضح لمكان صدورها، ومذيّلة بأسماء موقّعيها ومن أصدرها. وهذا يطرح بقوّة على بعض رموز المعارضة الموجودين في الخارج أن يعتمدوا نهج الشراكة الديمقراطية الذي عابوا على نظام الأسد تغييبه، لتفضيله التفرّد الاستبدادي والمزاجيّ.

من جهة ثانية أعلن القائد العام لغرفة العمليات العسكرية، أحمد الشرع (الجولاني)، تكليف محمد البشير بتشكيل حكومة سورية جديدة لإدارة المرحلة الانتقالية.

الظّروف الداخليّة: إشاعة الهرب

في سياق استيعاب سرعة انهيار نظام الأسد لا بدّ من التوقّف عند الظروف الداخلية التي سبقت مغادرته إلى موسكو. فمع صحّة القول إنّ اندفاعة المعارضة لم تكن لتتمّ من دون القرار التركي بدعمها ومن دون الدور الأميركي الخلفيّ في تأييد تلك الاندفاعة، ثمّة عوامل سوريّة داخلية لعبت دوراً فاجأ “الرعاة” الخارجيين. ومع صحّة الاستنتاج بأنّ روسيا وإيران امتنعتا عن الدفاع عن بقاء النظام كلٌّ منها لظروفها، لا يمكن تجاهل أثر ترهّل الجيش السوري وتردّده. يحتاج ربط خيوط الأحداث الأخيرة في سوريا إلى الكثير من الاستقصاء والمعطيات التي أفرزت النتيجة السياسية الكبيرة التي بلغتها بلاد الشام. سيخضع الإلمام بالمعطيات لوقت طويل من التمحيص والتدقيق لجمع الروايات الحقيقية. يمكن ذكر بعض الوقائع التي تضافرت على الصعيد الداخلي مع العوامل الخارجية وأسهمت في انقلاب المشهد السوري:

– أُصيب الأسد بالذعر في 27 تشرين الثاني عند بدء المعارضة هجومها على ريف إدلب وريف حلب، وهو ما حمله على زيارة موسكو في اليوم التالي، أي الخميس 28، للاستنجاد بها.

– انسحب الذعر على الحلقتين الضيّقتين الأولى والثانية المحيطتين بالأسد. فمغادرته إلى العاصمة الروسيّة تمّت من دون إعلام العديد من محيطه، بحيث انتشرت وسط بطانة القصر الرئاسي شائعة بأنّ “الرئيس هرب”. كان هؤلاء يتصرّفون انطلاقاً من معرفتهم القريبة بالأسد وبشخصيّته غير البعيدة عن تفضيل الهرب على اتّخاذ قرارات بتقديم تنازلات. لم يخفِ العديد من مستشاريه تبرّمه من اعتماده أسلوب المراوغة والتسويف إزاء النصائح الروسية له بأخذ مسافة من طهران.

– بعد عودته من زيارته الأولى لموسكو حيث سمع لوماً لعدم إنصاته لنصائح تغيير نهجه، انشغل الأسد بالاتّصالات الخارجية لمحاولة الحصول على تطمينات إقليمية ودولية إلى مسألة بقائه. شملت اتّصالات بعض الوسطاء إسرائيل التي خدعت المتّصلين بالقول إنّها ليست مع تغيير النظام وتكرار مطالبها بإبعاد إيران و”الحزب” عن سوريا ومنع تهريب السلاح إليه.

انفكاك العلويّين عن السّلطة

– مع تشديده الأوامر على الجيش بالتصدّي لـ”هيئة تحرير الشام” وفصائل المعارضة، كانت اتّصالات الأخيرة مع وحدات الجيش نجحت في إقناع الكثير من الضبّاط، فكان أن انشقّوا عن النظام بالآلاف وغادروا مواقعهم في الشمال والوسط تاركين الأعتدة الثقيلة ورافضين القتال. وبعضهم فعل ذلك من تلقاء أنفسهم من دون تواصل مع المعارضة. والبعض الآخر من كبار القادة نصحه بتسليم السلطة.

– الأهمّ أنّه في الأشهر الأخيرة من حكمه تصاعدت النقمة بين وجهاء الطائفة العلوية حيال سياساته. منشأ هذه النقمة يعود إلى تردّي الوضع الاقتصادي الذي أصاب حتى شباب التشكيلات العسكرية التي قاتلت إلى جانب النظام ضدّ المعارضة. يضاف إلى ذلك تنامي مشاعر الاحتجاج على توسّع الانتشار الإيراني في سوريا وشراء ميليشيات الحرس الثوري الكثير من الأراضي والعقارات في الساحل السوري. فالضائقة المالية اضطرّت أصحابها إلى بيعها. وقد تصاعدت نقمة المشايخ العلويين بحيث فقد التغطية لحكمه التي استند إليها آل الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي لحكم سوريا.

بقدر الدور الذي لعبته نقمة العلويين كعامل مساعد على نزع شرعية الحكم، على قوى المعارضة التي سبقت هجومها العسكري تحدّي استقطاب الطائفة إلى المرحلة الانتقالية في التركيبة الداخلية.

أهداف الدّول ومسمار جحا الإسرائيليّ

إقليميّاً، المصالح المتضاربة أحياناً، والمتقاطعة أحياناً أخرى، لكلّ من تركيا، روسيا، إيران، أميركا وإسرائيل، تقوّض “استقلال ووحدة سوريا”. الدول ترفع هذا الشعار، لكنّها تضمر شيئاً آخر بخططها للمستقبل في الصراع التاريخي على سوريا.

وهذا ما يفرض على الدول العربية الرئيسة، خصوصاً مصر والسعودية، أن تكون شريكة في المظلّة الخارجية للسلطة الجديدة.

من موقع الأخيرة في هذا الصراع يتأثّر العراق والأردن ولبنان بما يجري فيها. ولبنان يواجه تحدّي عودة “الحزب” إلى الداخل اللبناني للتأقلم مع سقوط الإمبراطورية الإيرانية. فمعابر نقل السلاح وغيره من موادّ التهريب التي كانت مصدر تمويل له، صارت في يد “هيئة تحرير الشام” لا الجيش السوري ولا عناصره.

إحدى إشارات القلق من إغراق فرحة السوريين وجيرانهم العرب، لزوال حكم العائلة، بالصراعات والفوضى، حديث الرئيس الأميركي جو بايدن عن أنّ أميركا ستساعد على “إدارة المخاطر” المحيطة بسوريا بعد خروج الأسد. وهذا يعني أنّ “المخاطر” ستبقى موجودة، لكن في ظلّ السعي إلى التحكّم بها وفقاً للمصالح الأميركية.

في السياق باشرت تل أبيب دقّ مسمار جحا جديد في الجغرافيا السورية بإعلان بنيامين نتنياهو من جانب واحد إلغاء اتفاقية فكّ الارتبط لعام 1974 بين تل أبيب ودمشق. احتلّت قوّاتها موقع جبل الشيخ إثر انسحاب الجيش السوري منه. كما احتلّت منطقة حدودية مع الجولان المحتلّ في محافظة القنيطرة بحجّة ضمان أمن شمالها. بذلك اقتطعت ما يقارب مئتي كيلومتر مربّع من الأرض السورية، إضافة إلى الجولان المحتلّ. ويشبه ذلك مزارع شبعا التي باتت مسمار جحا في الأرض اللبنانية، بهدف الإبقاء على مساحة متنازع عليها تسمح للدولة العبرية بخلق ظروف للاشتباك. وهذا ما حصل على الجبهة اللبنانية منذ عام 2000. يتيح السلوك الإسرائيلي حيال سوريا الاستنتاج بأنّ نتنياهو يسعى من احتلاله مناطق جديدة إلى الحفاظ على “صنّارة” بقاء “المقاومة”، وبالتالي إيران. فهل تستدرج إسرائيل طهران للبقاء من أجل تسويغ مواصلة تدخّلها في سوريا، في وقت يتحدّث وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي عن سحب قوات بلاده من بلاد الشام؟

وليد شقير

التعليقات (0)
إضافة تعليق