قرار المحكمة العليا الأميركية وآثاره على محاكمات ترامب

بقلم د. ابراهيم العرب

كان من المتعارف عليه بأن الرئيس الأميركي يتمتع بالحصانة من المسؤولية في الدعاوى الناشئة عن الإجراءات المتعلقة بالواجبات الرسمية.

ولكن لم تكن المحاكم الأميركية قد بتت بعد، فيمَا إذا كانت الحصانة تمتد إلى الرؤساء السابقين بسبب الإجراءات التي اتخذوها في «المحيط الخارجي» لسلوكهم الرسمي أثناء وجودهم في مناصبهم. إلا أنه كان مبتوتًا به أن الرئيس ليس في مأمن من الإجراءات الناشئة عن سلوكه غير الرسمي في الفترة التي يكون فيها موجودًا في منصبه، وكذلك عن سلوكه الذي حدث قبل دخول المنصب وسلوكه الذي يحدث بعد ترك المنصب.

أما بالنسبة للمحكمة العليا فلم تكن قد قضت بعد بأن الرئيس الأميركي يتمتع بحصانة مطلقة من الملاحقة فيمَا يتعلق بالأعمال الرسمية التي تمس الجوهر الدستوري لصلاحياته كرئيس، إلا أن وزارة العدل كانت هي التي تقول ذلك، لاعتبارها أن القول بغير ذلك، من شأنه أن يعيق عمل أي رئيس حالي أو مستقبلي، من خلال تخويفه من ممارسة صلاحياته التنفيذية، مما سيشل حركته. كما كان مستشارو وزارة العدل يصرّحون بأنه يَجِبُ ألاّ يكون للمدعي العام للولاية، أو حتى المدعي العام الفيدرالي القدرة على ملاحقة الرئيس عن أفعال رسمية تدخل في صلاحيته الجوهرية كرئيس، وذلك بالاستناد إلى حدس بنيوي من نفس النوع الذي دفع المحكمة العليا في قرار ١ تموز إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن مقاضاة الرئيس بسبب أفعاله الرسمية، ولكن مع التفريق بين الحصانة المطلقة المعطاة للأفعال الرسمية الداخلة بصلاحيات الرئيس الجوهرية، وبين الحصانة القابلة للنقض تبعًا لكل حالة بالنسبة للأفعال الرسمية التي تقع ضمن المحيط الخارجية، وذلك لأنه إذا ما خشي أي رئيس مستقبلي، تعرضه لملاحقات قانونية سيكون مشتتًا، ولن يكون قادرًا على العمل، وقد يغير سياسات مختلفة من أجل محاولة كسب تأييد الجمهور بطريقة ما.

وتأسيسًا على ذلك، قضت المحكمة العليا الأميركية نهار الإثنين الماضي بأن دونالد ترامب يتمتع بـ»حصانة جزئية» من الملاحقة القضائية بصفته رئيسًا سابقًا، واعتبرت المحكمة أن الرؤساء السابقين لهم الحصانة من الملاحقة الجنائية في ما يندرج ضمن سلطتهم الدستورية. حيث جاء في قرار المحكمة العليا الذي أيّده ستة قضاة وعارضه ثلاثة آخرون أن «الرئيس لا يحظى بأي حصانة عن أعماله غير الرسمية»، لكن له «الحق على الأقل بحصانة افتراضية عن أعماله الرسمية». كما أوضح رئيس المحكمة العليا جون روبرتس في عرضه رأي المحكمة «إن طبيعة السلطة الرئاسية تمنح الرئيس السابق حصانة مطلقة من الملاحقة الجنائية عن الأفعال الرسمية التي يتخذها بوصفه رئيسًا». ولكن قرار المحكمة العليا أثار حفيظة الرئيس الحالي جو بايدن، الذي اعتبره يمثّل تغييرًا جذريًا للمبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة، وقال في كلمة ألقاها في البيت الأبيض فجر اليوم الثلاثاء إن القرار يؤسس لما سماه سابقة خطيرة لأن صلاحيات الرئيس لن تكون مقيدة بالقانون بعد الآن، لأن القرار خلق مبادئ جديدة خطيرة، وقال إن ذلك من شأنه أن يشجع ترامب على أن يفعل ما يحلو له، معتبرًا أن «قرار المحكمة استمرار لهجومها في السنوات الأخيرة على مجموعة واسعة من المبادئ القانونية الراسخة في أمتنا». وتابع الرئيس الأميركي الحالي أن القرار يمثل تغييرًا جذريًا للمبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة، لجهة أن أفراد هذه الأمة جميعهم متساوون أمام القانون، ولا أحد فوقه؛ فيمَا ردّ عليه ترامب بتصريح أعلن عنه مؤخرًا، أن حكم المحكمة العليا يمثل انتصارًا كبيرًا للدستور والديمقراطية في الولايات المتحدة.

وعمومًا، إذا ما وضعنا الجدل الدائر سياسيًا بين الرئيسين بايدن وترامب على جنب، فإن قضاة المحكمة العليا يتمتعون بهيبة قانونية كبيرة في أميركا، حتى أن رئيس المحكمة يأتي بروتوكوليًا في المرتبة الثانية بعد الرئيس الأميركي، وقبل نائب الرئيس ورئيس مجلس الممثلين والوزراء، كما أن المحكمة العليا تقوم بدور قضائي مستقل رسميًا، ولو أنها اصطدمت بالسابق مع الرئيس روزفلت بمناسبة خطته للتوجه السياسي الجديد بعد عودته للرئاسة بفوز كاسح سنة ١٩٣٦، حيث هدّدها بإعادة النظر في تكوينها، مما دفع لاستقالة عضوان معارضين منها، ثم توفي آخران، ما سمح لروزفلت بتعيين أربعة قضاة مكانهم لسد الفراغ، وهو ما أحدث حينها انعطافًا كبيرًا في اجتهاداتها. ولكن المحكمة لم تصبح في أي يوم من الأيام لُعْبَة بيد السلطة التنفيذية، ففي عهد الرئيس نيكسون ٣٠ حزيران ١٩٧١ وقفت إلى جانب حرية الصحافة، وذلك بمناسبة نشر تقرير ماكنمارا عن حرب فيتنام. ومن ثم بعد فترة وجيزة جدًا في فضيحة ووترغيت، اتخذت قرارًا بالإجماع بنبذ امتيازات السلطة التنفيذية، ما أدى تباعًا لاستقالة ريتشارد نيكسون. وفي ٢٥ حزيران ١٩٧٤ اتخذت قرارًا بعدم دستورية قانون سلطة فلوريدا الذي يفرض على الصحف قبول الردّ، لأن حرية الصحافة لا تقيّد بقوانين حسب التعديل الأول للدستور سنة ١٧٩١. وفي ١٥ حزيران ١٩٨٢، أكّدت في قرارها أن الدستور يضمن الحقوق نفسها للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين. أما في ١١ حزيران ١٩٩٠ أعلنت في قرار أيخمان ضد الولايات المتحدة عدم دستورية قانون يمنع تحقير العلم.

أما من ناحية آثار القرار القضائي على مجريات محاكمة ترامب، فإن حكم المحكمة العليا الذي صدر بأغلبية 6-3 سيعيد القضية إلى قاضية المحكمة الفيدرالية تانيا تشوتكان، الناظرة بملف ترامب، لتحديد متى وإذا ما كان سيمثل الأخير للمحاكمة؛ ذلك أنه يتوجب اليوم على تلك القاضية أن تحدد أي الأفعال المزعومة في لائحة الاتهام رسمية، وبذلك تتمتع بحصانة، ومدى تلك الحصانة، وأيها غير رسمية، وبالتالي لا حصانة لها.

وعليه، إذا تم اعتبار أفعال ترامب رسمية تمس جوهر صلاحياته كرئيس، فسيتم وقف محاكمة ترامب جنائيًا وإسقاط القضية نهائيًا ما لم يحصل استئناف، لأن قرارات تلك المحكمة الابتدائية قابلة للاستئناف، ما يجعل من غير المرجح أن يصدر حكمًا مبرمًا بقضية الرئيس السابق ترامب قبل أن يدلي الناخبون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية لهذا العام؛ ناهيك عن أن المحاكمة الابتدائية وحدها ستأخذ وقتًا طويلًا، نظرًا لأنه سيُسمح خلالها لمحامي ترامب والمدعين العامين الذين يعملون مع المستشار الخاص جاك سميث، بمناقشة لائحة الاتهام، وما إذا كان ترامب يتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية، وهي العملية التي ستتطلب لوائح ومذكرات مكتوبة ومرافعة شفوية.

ونختم بالقول، بغض النظر عن قرار المحكمة العليا الأخير والمبادئ الجديدة التي أرساها، وبغض النظر عن مجريات المحاكمات الدائرة اليوم بحق الرئيس السابق دونالد ترامب، في حال فوز الأخير المرجّح من جديد بالانتخابات الرئاسية، فإنه يُمكنه وفقًا لصلاحياته الدستورية بعد تنصيبه في يناير 2025، أن يأمر بإنهاء المحاكمات الفيدرالية في حقه، وهذا ما سينهي ملفه القضائي فورًا.

د. ابراهيم العرب

التعليقات (0)
إضافة تعليق