بقلم قاسم يوسف «اساس ميديا»
سرديّة سياسية واحدة حكمت المنطقة على مدى قرن كامل: إمّا الدكتاتورية، وإمّا الإسلام الراديكالي. منذ باكورة الثنائيّات بين جمال عبد الناصر وسيّد قطب، مروراً بحافظ الأسد وسُنّة حماة، وأنور السادات وحركة الجهاد الإسلامي، وصولاً إلى حسني مبارك وإخوان مصر، وزين العابدين بن علي وراشد الغنوشي، وبشار الأسد وداعش، وكذلك هي الحال ولو بشكل معكوس بين شاه إيران والخميني.
بالتوازي مع حكم الدكتاتورية أو العسكر، كان ثمّة قطب إسلامويّ لا بدّ منه في خلفيّة المشهد. ولو لم يكن حاضراً لأحضروه، باعتباره ضرورة قصوى لتشريع النظام القائم، لأنّ بديله هو الكارثة بعينها، بل الانهيار الشامل لكلّ المجتمعات والأنسجة والخرائط. وقد تمّ منح هذه الجماعات هامشاً محدوداً من الحركة لإظهار وحشيّتها، ثمّ الإمعان في ضربها بيد من حديد.
كلٌّ منهما ضرورة لوجود الآخر:
- الراديكالية أو الأصولية الدينية تستقي شرعيّتها من المظلوميّات القصوى التي يُفرّخها النظام الدكتاتوري، على اعتبار أنّ الإسلام هو الحلّ.
- فيما الدكتاتوريات تتّخذ من حالات مماثلة مطيّة لتشريع وجودها وبطشها.
على هذه السجيّة حُكمت المنطقة برمّتها على مدى عقود طويلة. فيما بقيت بعض الدول خارج هذا المنطق، لحسابات داخلية وخارجية، ولاعتبارات شديدة الدقّة والحساسية. وهي الدول نفسها التي شهدت استقراراً مستداماً، ونهضة اقتصادية تراكمية، وتطوّراً كبيراً وملحوظاً، أقلّه منذ ربع قرن.
سحق الأصوليّة ونسف الدكتاتوريّة
الآن الصورة آخذة في التغيّر، فمع توثّب إسرائيل نحو سحق الراديكاليات الدينية بشقّيها السنّي والشيعي في المنطقة بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023)، وارتصاف الدول المؤثّرة والوازنة في ركاب التفتيت الممنهج لهذه الأصوليّات في غزة كما في لبنان، برز الإسقاط المدروس لسلطة بشار الأسد ونظامه، بعد عقد ونيّف من اقتتال دموي ذهب ضحيّته مئات الآلاف، وحوّل سوريا إلى ساحة مفتوحة لكلّ جيوش العالم.
هذا التزامن بين سحق الأصولية ونسف الدكتاتورية لم يكن وليد صدفة أو ارتباك غير مقصود. بل تمّ الإعداد له بعناية شديدة في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتحضيراً لسردية سياسية جديدة ومختلفة تماماً عن تلك التي حكمت المنطقة طوال المرحلة الماضية. وفيما لم تتّضح حتى الساعة كامل التفاصيل المتعلّقة بهذه السردية، لكنّ معالمها الآخذة في البروز تباعاً تشي برغبة متصاعدة في إنجاز خليط من الليبرالية المحافظة يشبه إلى حدّ ما تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، التي وازنت بين الحكم الديني والعلمانية بمعناها الواسع أو المطلق، وأخرجت تجربة لا بأس بها في بلد شديد الخصوصية والتعقيد.
هشاشة النّخب السّياسيّة
ما يبعث على القلق في سوريا هو الهشاشة المفرطة للنخبوية السياسية التي عاشت على مدى نصف قرن تحت حكم الأسد. قد تُشكّل هذه الهشاشة بحدّ ذاتها مدخلاً لأخذ سوريا نحو مسارات سياسية تفتقر إلى النضوج والبصيرة. وهي مسارات قد تؤسّس لانشقاقات مهولة داخل النسيج الاجتماعي لحساب بعض المصالح الضيّقة لهذه الدولة أو تلك، في سيناريو مشابه للحدث المصري عقب سقوط الرئيس حسني مبارك، وما أعقب هذا السقوط من جنوح مفرط في العبث لامس حدوداً غير مقبولة وغير معقولة، وساهم في استفزاز المحيط القريب والبعيد، وفي تعميق قلقهم وخوفهم، كما في الارتطام العنيف بالمزاج الشعبي العامّ، وهو مزاج رفيع في خصوصيّته، بدا أنّه عصيّ على التطويع أو التطويق أو الترويض، حتى في أحلك الظروف وأصعبها. وثمّة فارق هائل وشاسع بين مصر التي احتواها أدهى دهاة العرب عمرو بن العاص، وبين مصر التي خطفها خيرت الشاطر ومحمد مرسي.
لكن، بعيداً من أيّ منطق متشائم أو مبالغ في التفاؤل، ثمة في التجربة السورية بقعة ضوء ونوافذ كثيرة مفتوحة على الأمل. أصل الضوء يكمن في ضابط حازم للإيقاع يتمثّل في الإدارة الأميركية، التي يبدو جليّاً أنّها تتابع دقائق تفاصيل العملية السياسية في دمشق. وهي إذ تتمهّل في اتّخاذ موقف حاسم من المشهد المستجدّ في سوريا، تنشط على أوسع نطاق خلف الكواليس، بهدف إنتاج تجربة جديدة قد تؤسّس لاستقرار مستدام، ليس في سوريا وحسب، بل على مساحة المنطقة برمّتها. وهذا الاستقرار مرتبط على نحو عميق بنظام سياسي متوازن، وبسردية سياسية مختلفة تماماً عن السرديّات السابقة، وفي مقدَّمها مسألة السلام مع إسرائيل.
“دومينو” تغيير الأنظمة؟
سينطوي نجاح هذه التجربة على مخاطر جدّية، لأنّها ستشكّل مدماكاً مركزيّاً لتغيير وجه الشرق الأوسط برمّته، حيث إنّ أيّ تجربة إسلاموية ذات بعد ليبرالي قد يُكتب لها النجاح في بلد معقّد مثل سوريا، ستفتح الشهيّة المفرطة على استنساخها. وهو ما يعني دخول المنطقة في مرحلة من اللااستقرار الطويل الأمد. وأوّل العاصفة سيهبّ في لبنان وفي الأردن، وسيتوسّع ليصل إلى تخوم المغرب العربي.
لكنّ فشل هذه التجربة سينطوي على مخاطر أحدق وأوسع وأخطر. وهنا تماماً تكمن الطامة الكبرى لأنّ سوريا ترقد عند فالق الزلزال، وأيّ انعدام للاستقرار فيها يعني أنّ المنطقة برمّتها ستعيش فوق فوهة بركان.
المشهد ملتبسٌ للغاية. الثابت حتى الآن أنّ العالم لن يسمح بقيامة أصوليّة راديكالية جديدة في سوريا، والشعب السوري المنتفض لن يقبل باستنساخ نظام دكتاتوري على سجيّة النظام البائد. تبقى بقعة الضوء الوحيدة في توجّه الإدارة الأميركية والدور التركي، وفي احتضان العرب، كلّ العرب، للحالة السورية الوليدة، وجذبها بحكمة ورويّة وهدوء نحو هبوط آمن، بعيداً من أيّ موقف مسبق أو قلق مشروع، وعلى أساس واضح ولا لبس فيه، مفاده أنّ استقرار سوريا ووحدتها وحيادها عن تعقيدات المنطقة هو فوق كلّ اعتبار.
قاسم يوسف