بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
في سيرة الأسطورة ثمّة لحظة واحدة هي لحظة كافية لولادتها، لحظة يصير فيها صاحبها أسطورة.
في سيرة السيّد حسن نصرالله لحظاتٌ كثيرة.
البعضُ يحدّدها في ذلك المساء من 14 تموز 2006، لحظةَ صرخَ عبارته الشهيرة: “أنظروا إليها تحترق”.
البعض يحدّدها في وداع هادي من فوق الكفن أو في خطاب بنت جبيل بعد التحرير و”بيت العنكبوت”.
البعض حدّدها أخيراً بمساء ذلك الجمعة الأليم من أيلول الأسود.
لكن مهما اختُلف حول تحديد اللحظة، يظلُّ الإجماع مؤكّداً على أنّ هناك أسطورة، وأنّ هناك إلى جانبها حزباً وتنظيماً.
هل غابت الأسطورة الآن؟ وماذا يبقى من التنظيم و”الحزب”؟!
كان أحد كبار رجال الدين العراقيين يشرح لضيفه اللبناني كيف أنّ النظام الإيراني حاول نسخ تجربة السيّد نصرالله في كلّ مكان، وخصوصاً في العراق… وفشل.
في اليمن لم تكن أمام الملالي حرّية الخيار. هناك جماعة كاملة هم الحوثيون. يتوارثون زعامتهم كما يتوارثون كلّ ما يملكون من مخلوقات ومادّيات. عبد الملك هو الوريث الآن. وبالتالي اعتمدته طهران.
الأمر نفسه في سوريا. هناك بشار الأسد. قُضي الأمر. إنّه الحليف كما كان والده.
في فلسطين كانت معاناة وتقلّبات. ذهب “إخوان” غزّة بعيداً ضدّ الأسد وحتى ضدّ طهران على الرغم من العلاقة الفكرية القديمة بينهم وبين الخمينيّة، ثمّ عادوا إليها ووجدت طهران نفسها أمام شراكتهم شبه الحصرية. لا بل يُقال أنّ نصرالله لعب دوراً حاسماً في عودة تلك الشراكة.
في العراق كان الوضع يشبه لبنان. فصائل كثيرة وخيارات متعدّدة ومحاولات من قبل طهران. سمّى رجل الدين العراقي أسماء عدّة. أخذوهم إلى قمْ وغيرها. درّبوهم وجهّزوهم وأعادوهم إلى بغداد. ولم يخرجْ منهم نصرالله واحد.
خامة الأسطورة ولحظة الولادة
لماذا؟ هنا أوّل خامة الأسطورة. قبل الوصول إلى لحظة ولادتها.
منذ كان مراهقاً، تلاحقت لحظات اكتشاف شيء ما في هذا الرجل.
كان في الخامسة عشرة من عمره حين لاحظ تميّزَه الشيخ محمد الغراوي، إمام مسجد في صور. فكتب يوصي به إلى المرجع محمد باقر الصدر في النجف. هناك تكرّر الأمر مع الصدر، فأوكلَ أمره إلى أحد تلامذته البارزين، السيّد عباس الموسوي. مرّة جديدة ظهر تفوّقه، فأبقاه الموسوي معه في بعلبك، حتى وقعت حرب الأخوة مع “أمل” في النصف الثاني من الثمانينيات. دخل السوريون بيروت، في دور الإطفائي المهووس بإشعال الحرائق. رفض السيّد الشابّ الواقع الجديد. فاختار المنفى في طهران. وفي قم تحديداً. حيث اكتشفه أهل الحوزة ثمّ أهل النظام… فبدأ المشوار. ولم تمرّ خمسة أعوام حتى كان الأمين العامّ.
كان في الـ32 من عمره يوم تسلّم “الحزب” ليُمضي في موقعه 32 عاماً أيضاً. أشياء كثيرة تغيّرت فيه وغيّرها.
هو الآتي من الجناح “الأمليّ الإسلامي” المنتفض على نبيه برّي، بسبب إيمان الأخير بلبنان. انتهى أوثقَ حليفٍ لبرّي، وراعياً لإقرار شورى “الحزب” بالإجماع مبدأ نهائية كيان لبنان، بعدما رعى دخول “الحزب” في مؤسّسات الدولة اللبنانية، للمرّة الأولى مع برلمان 1992.
كان ذلك يومها بمواجهة رفض الأمين العامّ الأوّل صبحي الطفيلي لذلك الخيار، تعنّتاً منه في ثوريّته الخمينية، لتصبح المفارقة بعد عقود هجوماً مستمرّاً من الطفيلي على “إيرانيّة” السيّد.
هو الآتي من الصراع الخفيّ الكامن والمعلن أحياناً مع سوريا الأسد، انتهى إلى أن يكون سيّد القوّة الأولى التي دافعت عن الأسد وعن نظامه، ولو بثمنٍ سوريّ دمويّ ثقيل جدّاً جدّاً جدّاً.
هو الآتي من خطابات المراهقة الثورية، عن شيعيّة كلّ لبنان، وشيعيّة جغرافية كسروان وجبيل، انتهى إلى تفاهم النضج الميثاقي الوطني الكامل، مع زعيم موارنة الجبل ولبنان وربّما المشرق، ميشال عون.
مع ذلك كلّه، ظلّت علاقته بالوطن، موضع التباس لدى ناسه، وصولاً إلى الخصوم.
أيّ لبنان يريد السيّد؟ هل يؤمن بنهائية تعدّديّته كما قال بنهائية كيانه؟ هل يعمل على إزالتها بالتدرّج وعلى مراحل؟
هل صحيح أنّ كلّ ما حصل من ضربٍ لمؤسّسات الوطن كان مقصوداً ومطلوباً؟
تناقض الحيوات اللبنانيّة
خصومه وخصوم حزبه يتّهمونهما بأنّهما أدركا بعد 2006 أنّه يستحيل عليهما حكم لبنان كما كان وكما هو. يستحيل على مفهوم “الضاحية – الأمّة” أن يتحكّم بـ”لبنان – سوليدير”، لبنان الطبقة الوسطى الفاعلة والحيّة، لبنان المصرف المليء، والجامعة الأجنبية المتفوّقة، والمستشفى الخاصّ الدولي الصيت، والمدرسة المنافسة في البكالوريا الفرنسية والدولية، لبنان حياة الفرح وفرح الحياة؟!
يقول خصومه إنّه منذ ذلك الحين اتُّخذ القرار بتنفيذ المشروع الاستراتيجي الجديد، ضربُ ذلك كلّه، تركها تنهار وتندثر تباعاً، تصفية هذه المقوّمات التي لا تشبه مشروع “الحزب”، ولا تشبه فكره ولا عقيدته، ولا تحقّق المقتضيات الضرورية لبقاء حقول تجنيده لناسه ومقاتليه، وأدلجتهم على نموذجٍ حياتيٍّ مناقض كامل.
صار ما صار. وسقط ذلك اللبنان بالكامل. ثمّ سقط السيّد. هو الذي كان يحبّ الحياة. ويحبّ ضحكتها دوماً. ويحرص على تلقّف طرائفها وعلى روايتها. حتى صارت البسمة أكثر التصاقاً بصورته، منافسة لصورة الإصبع المرفوع.
غابت اليوم الأسطورة. لكنّ إطارها باقٍ. وهو باقٍ على ثلاثة مستويات على الأقلّ أو بسبب طبيعة الحياة والصراع في تلك المستويات الثلاثة.
– أولاً، “الحزبُ الإطار” باقٍ ما دام هناك لبنان، وما دامت فيه جماعاتٌ هي شبه دول، ومنها الجماعة الشيعية التي ينظر ناسها إلى “الحزب”، لا كممثّلٍ لفكر ديني وحسب، ولا كمشروع مقاومة للكيان الصهيوني فقط، بل أيضاً وقبلاً، وربّما أوّلاً وأساساً، كرافعة لوجود الجماعة في لبنان، وضامن لشراكتها في مغانم وطن مشلّع، وحافظٍ لحصّتها في مغارته وكهوفه السحيقة.
– ثانياً، إطار الأسطورة باقٍ أيضاً لأنّ هناك إيران الملالي. إيران المرجع الدوغماتي والسياسي واللوجستي والماليّ والمشروعيّ، بما تمثّله من دولة إقليمية، وبما عملت وتعمل عليه من خلق “أجرام” مذهبية في مختلف دول المنطقة، سابحة ذوباً في فلك عشقها الولائيّ.
– ثالثاً، الإطار أو “الحزب” باقٍ، ما دامت هناك فلسطين، وما دامت هناك إسرائيل، هذه القضيّة الراسخة في نفوسٍ وسلوكيّات لأسباب قد لا يفهمها البعض. ويعتريها الكثير من انتهازيّات الاستثمار والاستغلال، ومن وصوليّي تكتيكات تحوير المآسي وتغطية الطغاة وتبرير العجز… وسوى ذلك ممّا لا مجال الآن لسرده. لكنّ فلسطين باقية. ومعها باقٍ هذا التوق. وبالتالي باقٍ هذا “الحزب”.
في الفكر الشيعي الاثني عشري بحرٌ كبيرٌ من معاني الغيبة والحضور.
لذلك، ولأسباب كثيرة أخرى، مع السيّد حسن نصرالله، يمكن القول إنّ الأسطورة غابت، لكن “الحزب – الإطار” باقٍ.
جان عزيز