بقلم: د. خليل جبارة
«أساس ميديا»
مع انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية وتسمية نوّاف سلام رئيساً للحكومة، ساد شعور بالتفاؤل الحذر في لبنان: تورد التقارير الإعلامية أسماء مرشّحين محتملين للمناصب الوزارية ذوي مؤهّلات مثيرة للإعجاب وخبرة دولية، في حين يلجأ آخرون إلى الضغط سعياً إلى مناصب. فمن أين ينبع هذا الأمل الجديد في لبنان؟
كانت لرئيس الوزراء رفيق الحريري رؤية شكّلت إلى حدّ كبير الاقتصاد السياسي للبنان في فترة ما بعد الحرب. ولاقت قبولاً، لكن نشأت خلافات حولها منذ عام 1992. لكنّ الحريري اتّخذ خطوات مدروسة لتنفيذها من خلال تعيين وزراء ومستشارين تقنيّين من خرّيجي جامعات أجنبية وشركات استشارات إدارية ومنظّمات دولية. فجسّدت شخصيات مثل الوزيرين الراحلين باسل فليحان ومحمد شطح هذا النهج.
كانت مثل هذه التعيينات متوقّعة في بلد مزّقته حرب أهلية دامت خمسة عشر عاماً ويعاني من هجرة الأدمغة الشديدة. ومع ذلك، استمرّ هذا الاتّجاه حتّى بعد اغتيال الحريري في عام 2005، مع الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تعيين وزراء كانوا مستشارين لدى البنوك الاستثمارية والأوساط الأكاديمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
إحباط النّخب
مع تفاقم الأزمات المتراكمة في لبنان، مثل توسّع قوّة “الحزب”، والنفوذ الإيراني المتزايد، وانفجار مرفأ بيروت، ثبطت عزيمة العديد من المغتربين اللبنانيين الناجحين عن الانخراط مع النخبة السياسية أو الانضمام إلى الحكومات الأخيرة. واختار البعض بدلاً من ذلك دعم مجموعات سياسية ناشئة، بينما ركّز آخرون على المبادرات الإنسانية.
حدثت هذه التطوّرات فيما كان النظام السياسي اللبناني يواجه أزمة شرعيّة متنامية تجلّت في التبنّي الواسع النطاق للشعار: “كلّهم يعني كلّهم”. لكن اليوم، مع انتخاب عون وتسمية نوّاف سلام رئيساً للوزراء المكلّف، هناك شعور بالتفاؤل الحذر. تذكر التقارير الإعلامية أسماء مرشّحين محتملين للمناصب الوزارية يتمتّعون بمؤهّلات مثيرة للإعجاب وخبرة دولية، بينما يمارس آخرون ضغوطاً للحصول على مناصب.
ما الذي تغيّر؟ ما مصدر هذا الأمل الجديد في لبنان؟ هل هو السجلّ الناجح للرئيس عون قائداً للجيش، خاصة في أوقات الأزمات؟ أم هو تكليف رئيس الوزراء نوّاف سلام، المعروف بمؤهّلاته المثيرة للإعجاب؟ أم هو تجدّد اهتمام المملكة العربية السعودية ودول أخرى بالشؤون الداخلية للبنان، كما يتّضح من التطوّرات الأخيرة؟
الإجابة تكمن في كلّ ما سبق
من المؤكّد أنّ أولئك الذين يسعون بنشاط للوصول إلى منصب وزاريّ، لا يفعلون ذلك من أجل البدل الماليّ، الذي بالكاد يتجاوز 700 دولار شهرياً من دون تأمين طبّي، بل إنّ المهتمّين بالانضمام إلى هذه الحكومة يعتقدون أنّ هناك فرصة لإحداث فرق، سواء كان ذلك بإنقاذ الأرواح، أو تحسين تقديم الخدمات، أو تعزيز الحوكمة وسيادة القانون.
يتحدّث العديد من الخبراء البارزين عن خيارات سياسية لمواجهة التحدّيات الماثلة اليوم في لبنان، وخاصة تلك المتعلّقة بالأزمة المصرفية، وزيادة إمدادات الكهرباء، وإدارة النفايات الصلبة، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي.
من المتوقّع أن تقدّم الحكومة الجديدة بياناً وزارياً ملموساً يترجم هذه الأفكار إلى خطط عمليّة قابلة للتنفيذ، حتى إنّه قد يحدّد قائمة بالتدخّلات ذات الأولوية التي يجب تحقيقها في غضون الأيام الـ100 الأولى. ومع ذلك، ليست مثل هذه الخطط جديدة. فقد أعدّت الحكومة الأولى لرئيس الوزراء سعد الحريري وثيقة “أولويّة المواطنين” بدعم من شركة استشارات إدارية.
بالمثل، قدّمت حكومة رئيس الوزراء السابق حسان دياب بياناً وزارياً مفصّلاً يتضمّن 127 إجراءً في 18 مجالاً سياسيّاً من مجالات السياسة، مع مهل تنفيذ تراوح من 100 يوم إلى ثلاث سنوات. وقدّمت الحكومات اللبنانية المتعاقبة باستمرار خطط إصلاح مماثلة. لكن، على سبيل المثال، لم ينفّذ سوى 26 إجراء للإصلاح من 117 إجراءً مدرجاً في وثيقة باريس 3، أي أقل من ربع المجموع.
لا يفتقر لبنان إلى أفكار أو استراتيجيات جديدة. على العكس من ذلك، البلاد غارقة في الاستراتيجيات التي تمّ وضعها بدعم من المجتمع الدولي، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر خطط التحوّل الرقمي، والحماية الاجتماعية، ومكافحة الفساد، وإضفاء الطابع الرسمي على العمل، والزراعة، والنموّ الصناعي، والتكيّف مع المناخ، والتعليم، والشباب، وإدارة النفايات الصلبة.
ما هي المشكلة الحقيقيّة؟
إنّها ليست الافتقار إلى الأفكار أو الاستراتيجيات، بل غياب الإرادة السياسية لتنفيذها. إذ لا تزال التشريعات والمراسيم التطبيقية غير منفّذة، ولا تزال اللجان مثل تلك المعنيّة بسلامة الغذاء والمنافسة تنتظر التفعيل. وحتّى بعض القوانين التي أقرّها البرلمان، مثل نظام التقاعد الحديث، لا تزال عالقة في الأدراج منذ كانون الأوّل 2023.
قال الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988 أمارتيا سين عن حقّ إنّ “المشكلة ليست في الافتقار إلى الحلول، بل هي في الافتقار إلى الإرادة السياسية لتبنّي الحلول التي لدينا بالفعل”. وتعرَّف الإرادة السياسية بأنّها “مدى التزام صُنّاع القرار الرئيسيّين بحلّ معيّن لمشكلة معيّنة، وهو ما يجعل هذا الحلّ مستداماً على مرّ الزمن”. كما أنّ تعزيز الإرادة السياسية لتنفيذ الإصلاحات يتطلّب ضغطاً عامّاً، وقيادة قويّة ملتزمة، وبناء تحالفات، والفرص التي تحرّكها الأزمات، ومشورة تقنيّة سليمة.
فرصة لإنفاذ الإرادة السّياسيّة
اليوم، يجد لبنان نفسه في أجواء قد تسمح أخيراً بإنفاذ الإرادة السياسية. فمع تجدّد الاهتمام الإقليمي، والحاجة الملحّة للعمل بدفع من تحدّيات إعادة الإعمار بعد الحرب، وفريق قياديّ قادر على إلهام الثقة وتعزيز التعاون، تتوافر الظروف للبنان للانتقال من وضع الاستراتيجيات إلى التنفيذ.
يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق بدخوله فصلاً جديداً بقيادة الرئيس جوزف عون ورئيس الوزراء المكلّف نوّاف سلام. الفرصة اليوم متاحة لتحقيق إصلاحات ذات مغزى وتلبية الاحتياجات الملحّة للمواطنين. ومع ذلك، لن يتمّ الحكم على النجاح من خلال عدد الخطط أو الاستراتيجيات المنتجة، لكن من خلال تأثيرها الملموس على الحياة اليومية للمواطنين اللبنانيين. يجب أن يتحوّل التركيز من صياغة خرائط الطريق إلى تنفيذ الحلول من خلال تعزيز الحكم، واستعادة الخدمات الأساسية، وإعادة بناء الثقة العامّة.
لدى هذه الحكومة فرصة فريدة لإثبات أنّ التغيير ممكن، حتى في مواجهة الشدائد. في نهاية المطاف، ستكون الانتخابات البرلمانية المقبلة بمنزلة اختبار حاسم لجهودهم. والسؤال الذي سيتردّد في ذهن كلّ ناخب بسيطٌ لكن عميق: هل جعلت هذه الحكومة حياتك أفضل؟
لم يعد الفشل خياراً. إنّ بقاء لبنان يعتمد على الأفعال وليس على الوعود.
د. خليل جبارة