بقلم د. ابراهيم العرب
ليس الحديث عن عودة الرئيس سعد الحريري مجرد خبرٍ سياسي عابر، بل هو منعطفٌ حاسمٌ في مسار لبنان، الذي يعيش اليوم واحدةً من أخطر أزماته على الإطلاق. فغياب الحريري ترك فراغًا سياسيًا زاد من حدة الانقسام، وساهم في تفكك الدولة وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. واليوم، مع تصاعد التحديات، تبرز عودته كضرورة وطنية لإنقاذ لبنان وإعادة إحياء مشروع الدولة الحديثة، المستقرة والمنفتحة على محيطها العربي والدولي.
الحريري: امتدادٌ لمشروع الأب وتحديات المرحلة
عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري عام 2005، لم يكن الحدث مجرد فقدانٍ لرئيس وزراء، بل كان ضربةً لمشروعٍ وطنيٍ طموح حوّل لبنان من حطام الحرب الأهلية إلى ورشة بناءٍ ضخمة. لم يكن مشروع الحريري الأب مقتصرًا على إعادة الإعمار، بل كان رؤيةً متكاملةً لبناء دولة مؤسسات تحترم التوازنات الداخلية وتكون جزءًا فاعلًا من محيطها العربي والدولي.
هنا يأتي دور الرئيس سعد الحريري، الذي استلم الراية في لحظةٍ مفصليةٍ، حيث واجه تحديات كبرى، أبرزها:
تصاعد الانقسامات الداخلية بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005.
تزايد التدخلات الخارجية التي جعلت لبنان ساحة صراعٍ إقليمي.
الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي بدأت تلوح في الأفق منذ 2019، ووصلت إلى الانهيار الكامل.
ورغم كل هذه الصعوبات، تمكن الحريري من الحفاظ على خط الاعتدال، محاولًا منع انزلاق البلاد إلى مزيدٍ من الفوضى. لكن غيابه القسري عن المشهد السياسي في السنوات الأخيرة فتح الباب أمام مشاريع متنافسة، تسببت في المزيد من التراجع والانهيار.
الحريري وعقدة الهوية اللبنانية: السنة بين الخيارات الصعبة
لطالما لعب السنة في لبنان دور “بيضة القبان” في التوازنات السياسية، لكن السنوات الأخيرة شهدت حالة من الضياع السياسي داخل الطائفة، نتيجة غياب قيادة جامعة، وتشتت التمثيل بين تيارات مختلفة. وهنا تبرز أهمية عودة سعد الحريري، كونه الوحيد الذي يمتلك القدرة على إعادة توحيد الصف السني، واستعادة الدور التاريخي لهذه الطائفة كعامل استقرار وتوازن، بدلًا من أن تكون ضحيةً للتجاذبات الإقليمية.
يمتلك الحريري نقاط قوةٍ تجعله المرشح الأبرز لقيادة هذه المرحلة، أبرزها:
شرعية شعبية واسعة، حيث لا يزال يحظى بدعمٍ كبير، خصوصًا في المدن السنية الكبرى.
علاقات دولية متينة، سواء مع الدول الخليجية أو الغربية، ما يمكن أن يساعد في إعادة جذب الاستثمارات إلى لبنان.
رؤية اقتصادية واضحة، تستند إلى الإصلاحات الهيكلية التي طالما دعا إليها، كخصخصة قطاع الكهرباء واللامركزية الإدارية.
الاغتيال السياسي وانهيار الحلم العربي
لا يمكن فصل اغتيال رفيق الحريري عن المشهد العربي الأوسع. فقد جاء الاغتيال في مرحلة كانت تشهد فيها المنطقة محاولات لتشكيل تكتل اقتصادي عربي على غرار الاتحاد الأوروبي، حيث لعب الحريري الأب دورًا محوريًا في مشاريع مثل “اتفاقية أغادير” لإنشاء منطقة تجارة حرة. لكن اغتياله شكل ضربةً لهذه التوجهات، وأطلق شرارة اضطرابات متتالية، بدأت في لبنان، وامتدت لاحقًا إلى العديد من الدول العربية.
ومع تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، وجد لبنان نفسه في قلب صراعٍ إقليمي، زاد من تعقيد أزماته الداخلية، وجعل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية أكثر صعوبة.
نداء البقاء: الحريري بين مسؤولية التاريخ وواقع المأساة
لبنان اليوم ليس فقط أمام أزمة سياسية، بل أمام انهيار شامل يهدد وجوده ككيانٍ مستقل. فالأرقام وحدها كافيةٌ لرسم صورة المشهد الكارثي:
انخفاض احتياطي النقد الأجنبي من 40 مليار دولار عام 2018 إلى أقل من 10 مليارات دولار عام 2023.
ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 80%، وفقًا للأمم المتحدة.
هجرة جماعية للشباب، حيث يخطط 40% منهم لمغادرة البلاد بحثًا عن فرصٍ أفضل.
وسط هذا الواقع، تبدو عودة سعد الحريري ضرورةً وطنيةً، وليست مجرد خيارٍ سياسي. فهو الوحيد القادر على إعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان، وجذب الاستثمارات، وإعادة إطلاق مسار الإصلاحات.
العودة ليست خيارًا.. بل واجب وطني
إن استمرار سعد الحريري خارج لبنان يعني استمرار سياسة “الإفقار الممنهج”، التي تحاول بعض القوى تكريسها لجعل الطائفة السنية في حالة ضعفٍ دائم. لكن عودته يمكن أن تكون نقطة تحول، ليس فقط لإنقاذ لبنان، بل لإعادة التوازن إلى المعادلة الداخلية، وإحياء مشروع الدولة القادرة والعادلة.
فكما قال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: “لبنان ليس أرضًا.. لبنان رسالة”. واليوم، هذه الرسالة تحتاج إلى قائدٍ يرفع شعار “لبنان أولًا”، بعيدًا عن الاستقطابات الطائفية والإقليمية.
فهل تكون العودة بداية “العهد الحريري الثالث”؟
الجواب ليس بيد سعد الحريري وحده، بل بيد كل لبناني يؤمن بأن لبنان يستحق فرصةً جديدةً للنهوض.
د. ابراهيم العرب