بقلم عماد الدين أديب
«أساس ميديا»
نحن نعيش “عجز القوّة” المفرطة النظامية أو “القوّة البدائية” المقاومة في تحقيق الهدف النهائي لأيّ عمل عسكري.
كلّ عمل عسكري، كما قال المحلّل الاستراتيجي العريق “ليدل هارت” عقب الحرب العالمية الثانية، لا يقاس بنتائجه على مسرح العمليات لكن يقاس بحقيقة الهدف السياسي النهائي الذي تمّ من أجله.
ما يسمّى بالـ mission statement هو المقياس المعبّر الموضوعي للحكم على النتيجة النهائية لأيّ عمل عسكري.
بهذا المقياس وهذا المعيار نسأل: هل عملية 7 أكتوبر 2023، التي قامت بها كتائب القسام، حقّقت الهدف الذي قامت من أجله، وهو فكّ حصار غزة، وقف اعتداءات المستوطنين، الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، هزيمة جيش الدفاع الإسرائيلي؟
.. بهذا المقياس وهذا المعيار، هل يمكن اعتبار أنّ عمليات الجيش الإسرائيلي منذ 8 تشرين الأول في مراحلها الأربعة حتى الآن حقّقت أهدافها، وهي إنهاء حماس، الإفراج عن الرهائن، تفريغ غزّة من السكّان، وإعادة تأمين المستوطنين في فضاء غلاف غزة؟
.. بهذا المقياس وهذا المعيار، هل ما قام به الحزب اللبناني من عمليات قيل إنّها لمساندة غزة ومشاغلة الإسرائيلي نجح في تخفيف الضغط على حماس وإضعاف عمليات إسرائيل الوحشية ضدّ المدنيين؟
.. بهذين المقياس والمعيار، هل ما قامت به إسرائيل من عمليات نوعية عبر تصفية إسماعيل هنية وفؤاد شكر وابراهيم عقيل ومحمد الضيف وصالح العاروري ومروان محسن وغيرهم تمكّن من إيقاف نشاط حماس والحزب؟ هل عمليّتا تفجير البيجر أوّلاً ثمّ الـ”ووكي توكي” ثانياً أضعفتا الحزب بإيقاف عملياته عبر الحدود؟ هل يؤدّي ذلك إلى تأمين حدود إسرائيل على جبهتها الشمالية؟
ولادة الإشكاليّات
كلّ العمليات والعمليات المضادّة وكلّ الردود على الردود والتصعيد المضادّ تَولّد إشكاليّات أكثر ممّا تولّد تسويات. كلّ الاستخدامات الدموية لعمليات نوعية تؤدّي إلى إجابات نهائية لا تصل إلى تسوية عادلة أو اتّفاق إذعان!
العقل الإسرائيلي اليمينيّ يتّفق مع العقل الحمساويّ لأنّهما يفكّران بشكل متطرّف غيبيّ ويتّفقان في شيء واحد هو ضرورة الوصول إلى حالة المتغلّب النهائي، أي بلغة المصارعة الحرّة الأميركية الفوز بلمس الأكتاف بأن يرفع المهزوم يده معلناً هزيمته طالباً الرحمة من خصمه حتى يتوقّف عن إيلامه!
طبيعة الصراع تفرض حقائق موضوعية يستحيل معها الوصول إلى حالة المتغلّب النهائي بشكل كامل بحيث يستطيع فرض شروط الإذعان وإملاء نتائج الهزيمة على خصمه.
كما أنّ حماس لا تستطيع حسابيّاً وعدديّاً وبموازين القوى إنهاء إسرائيل. وإسرائيل مهما أوتيت من قوّة نيران ووحشيّة في مسارح العمليات العسكرية وبراعة في العمليات هي غير قادرة على التغلّب النهائي على مشروع حماس ومشروع الحزب في لبنان.
صراع العقول المتطرّفة
صراع العقل التوراتيّ التلموديّ مع العقل الإخوانيّ القطبيّ اليمينيّ المتحالف مع العقل الشيعي السياسي المنادي بدولة ولاية الفقية، هو صراع عدميّ عبثيّ مدمّر يؤدّي إلى تحقيق أكبر قدر من الخسائر التي لا تفضي بالضرورة إلى أكبر قدر من المكاسب السياسية العمليّة.
نعم، أحدثت حماس زلزالاً في عملية 7 أكتوبر، لكنّها في الوقت ذاته قدّمت للوحشية الإسرائيلية مبرّراً إضافياً للعبة المظلومية التاريخية، التي تستخدمها لأعمال الإبادة الجماعية الوحشية.
نعم، جيش الدفاع الإسرائيلي حقّق أكبر قدر من التدمير والخسائر في البشر والحجر والميليشيا العسكرية لحماس، لكنّه خلق حالة استحالة نفسية عند الرأي العامّ الفلسطيني والرأي العامّ الإسرائيلي على حدّ سواء في قبول أيّ حوار قريب من تسوية تعايش بين الطرفين.
الاغتيال والتصفية الجسدية، الإبادة الجماعية، العمليات النوعية تضعف العدوّ، لكنّها وحدها قاصرة على اقتلاع بذور المشكلة وإطفاء الصراع والوصول للتسوية المطلوبة.
عبثيّة الاغتيال
تمّ اغتيال بن لادن وأيمن الظواهري وما زال تنظيم القاعدة يخرّب في أرجاء العالم.
تمّت تصفية قاسم سليماني وما زال الحرس الثوري يلعب دوره في تسخين المنطقة لمصلحة مشروع الوليّ الفقيه.
قُتل أنور السادات قبل 43 عاماً واستمرّت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية من بعده.
قُتل جون كينيدي واستمرّ تيّاره في الحزب الديمقراطي، وقُتل “أولوف بالمه” السويدي وبقيت فلسفة الرعاية الاجتماعية في شمال أوروبا.
حرق هتلر اليهود في محارق وأفران وبقوا وأسّسوا وطناً قوميّاً في فلسطين وما زالوا مقيمين في مفاصل العالم.
قُتل رفيق الحريري وبقي السُّنّة في لبنان، وقُتل كمال جنبلاط وبقي الدروز، وقُتل عباس الموسوي وبقي الحزب.
التصفية الجسدية قد تضعف العدوّ أو تعطّل المسار أو تؤجّل الصراع، لكنّها ليست الحلّ النهائي الجذري.
من هنا يمكن فهم مشروع التصفية الإسرائيلي للقيادات في غزة والضفة والضاحية الجنوبية لبيروت وسوريا واليمن على أنّه وهم القوّة التي تؤمن بأنّ تصفية القادة والتهجير القسري للمدنيين هما الحلّ الشافي النهائي لمخاوف الدولة العبرية.
أيضاً لم تفهم إسرائيل أنّ الموسوي يخلفه حسن نصر الله، وأنّ فؤاد شكر يخلفه إبراهيم عقيل، وسوف يخلف عقيل من قد لا يكون بذات الخبرة، لكن من الممكن أن يكون أكثر شراسة وتطرّفاً!
استراتيجية الهزيمة الكاملة على مسرح العمليات العسكرية، التي أدّت إلى دحر النازية في ألمانيا وقهر الفاشية في إيطاليا واستسلام اليابان بعد القنبلة النووية وسقوط حكومة فيشي بعد غزو النورماندي لم تعد ممكنة.
إلحاق الخسائر وإضعاف العدوّ هما المتاح الآن، لكنّ الهزيمة الكاملة غير ممكنة.
تأمّلوا حجم الخسائر في الحرب العراقية الإيرانية وحجمها في حرب أفغانستان وفي الحروب الأهلية في لبنان واليمن وسوريا والصومال وليبيا والسودان. كلّها انتهت إلى خسائر للطرفين. لكنّ الحرب لم تنتهِ بمنتصر نهائي ومهزوم كامل.
تستمرّ الخسائر ويستمرّ النزيف وتضيع الفرص التاريخية الجيّدة لتسويات عادلة كاملة بسبب ذلك الإصرار الأحمق الأنانيّ على استعادة مشهد روما القديمة حيث يدخل الجنرال المنتصر مع جيشه فاتحاً وغازياً وخلفه “الزعيم العدوّ” مقيّداً بالأغلال داخل قفص حديدي وسط تهليل الجماهير.
نماذج حروب وغزوات روما القديمة وهولاكو ونابليون وجنرالات الحربين الأولى والثانية انتهت إلى غير رجعة.
تبدأ الآن العمليات وتنتهي عند وصول الأطراف إلى أنّ الحوار أكثر فائدة من القتال وأنّ ثمن التسوية أقلّ بكثير من كلفة الحروب.
الآن، الحرس الثوري، حماس، الحوثي، جيش الدفاع الإسرائيلي، داعش، القاعدة، الميليشيات الليبية، طرفا الصراع السوري، حركة شباب الصومال كلّهم يؤمنون بأنّ السيف أفضل من الكلمة، وأنّ الرصاصة تحسم أكثر من الحوار، وأنّ إنهاء الآخر ضروري وممكن.
بالتأكيد في إسرائيل ولبنان وإيران والسودان وليبيا واليمن وسوريا عقلاء يؤمنون بالحوار والتسوية والتسامح والسلام والتعايش، لكنّهم للأسف الشديد غير ممسكين بمفاصل السلطة.
أزمة الأزمات أنّ من يمسك السلطة في أماكن الصراع لا يؤمنون حقّاً بعمليات التسويات والتعايش لأنّهم يعتقدون ويؤمنون بأنّ استمرار الصراع مهما كلّف أقلّ خطراً على مناصبهم مهما طال الزمن ومهما كانت فاتورة الخسائر.
وأزمة الأزمات أنّ من هم خارج السلطة أضعف من أن يفرضوا لغة العقل والاعتدال وحماية المصالح الوطنية من محور التطرّف والعداء.
عماد الدين أديب