وقد يصح أن يكون العنوان «محنة صحيفة الورق»، في المطلق وليس في لبنان وحده، وهذه المسألة لا تزال تطرح ذاتها، بإلحاح شديد، إلا أنها تتخذ عندنا بعداً خاصاً، وبالذات بالنسبة إلى الصحافيين من جيلنا الذين امتهنوا الصحافة منذ «صفّ» أحرف الألفباء على ماكينات «الانترتيب» و «اللينوتيب»، وقد تغلغلت رائحة الورق والحبر في أنفاسنا.
وأعترف بأن إعلان أي صحيفة التوقفَ عن الصدور يولّد في وجداني وقلبي حزناً مقيماً، ولا يختلف الوضع، اليوم، عن مشاعر الأسى والحزن ذاتها التي انتابتني مع إعلان توقف جريدة «نداء الوطن» عن الصدور، أسوة بالعشرات التي سبقتها، وآخرها «السفير» ودار «الصياد» بمنشوراتها الورقية كلها اليومية والأسبوعية والشهرية والفصلية. أقول هذا من دون أن تكون لي أي علاقة بنداء الوطن، باستثناء علاقة التعاطف مع جريدة شكلت إضافة على المشهد الإعلامي اللبناني.
ولعلّي لا أبالغ إذ أدعو الصحف التي احتجبت، وتلك التي ربما ستحتجب لاحقاً، لا سمح الله، أن تسير على خطى الزميل الراحل الكبير طلال سلمان الذي وفّى الزملاء وسائر أسرة «السفير» حقوقهم كاملة «حتى آخر بارة» كما قال لي غير واحد منهم.
وفي تقديرنا أن أسباب محنة الصحافة في لبنان لا تعود فقط إلى التطور التكنولوجي الإعلامي (معظم صحفنا أنشأت مواقع ونشراتٍ إلكترونيةً)، إنما إلى العجز عن مأسسة الصحيفة. فهي تقوم على الشخصانية. إلى ذلك، غاب الإعلان الدولي وضَمُر كثيراً الإعلان الداخلي. والصحيفة لا تستمر من دون إعلانات صريحة ومباشرة، علماً أن الإعلان غير المباشر لا يُنفَق، عندنا في لبنان، على تطوير الجريدة. كما أن الصحف الكُبرى، عموماً، تعود ملكيتها إلى شركاتٍ و «تروستات» ضخمة وبرساميل خرافية.
وبعد، يوم توليتُ رئاسة رابطة وكالات أنباء دول حوض البحر الأبيض المتوسط، استقبلْنا، في وزارة الإعلام، الرؤساءَ والمدراءَ العامين لتلك الوكالات الذين يمثلون بلدان الحوض في ثلاث قارات (آسيا وأوروبا وأفريقيا). وفي حفل الترحيب والاستلام، ألقيت كلمة تحدثت فيها عن فضل لبنان على الصحافة لا سيما في العالم العربي، لدرجة أن ممثل وكالة الصحافة الفرنسية قال لي على الأثر: صرتُ مقتنعاً بأن من حقكم أن تفاخرونا بتراثكم الصحافي العريق. قلت له: ونفاخركم بصحافيينا الذين رعوا هذه المهنة الشريفة وأسسوا أمهات الصحف (ودخلت في التفاصيل عن صحفٍ انشأناها وبينها اثنتان كبيرتان يُسعدني أنني كنت المدير العام المؤسّس لهما في عاصمتين خليجيتين).