ساذج، حتى الغباء، مَن يخطر له في بال، أن الاحتلال الإسرائيلي سينسحب كلّياً من الأراضي والمواقع اللبنانية التي يحتفظ بها جنوباً، والمرشحة الى التوسع ولو في نطاق ضيّق. ليس فقط لأن هذه هي طبيعة العدو، بل كذلك لأن له أهدافاً استراتيجية كبرى من وراء بقائه في المواقع التي لا يزال يتمركز فيها، وقد كانت خمسة فباتت عشرة، ولا نستغرب أن تكون ماضية نحو المزيد من القضم.
أمس وضع الرئيس جوزف عون إصبعه على هذا الجرح الجنوبي النازف من خلال حديثه مع وزيرة الخارجية الألمانية السيدة أنالينا بربوك فذكّر باستمرار احتلال أراضٍ وتلال، ومواصلة الاحتفاظ بأسرى لبنانيين، مؤكداً على أن الاحتلال قد «رفض جميع الاقتراحات التي قدمها لبنان للإخلاء».
الذين يطلعون على بعض وسائط الإعلام الغربي، وأولئك الذين قُيِّض لهم الوصول الى تقارير ديبلوماسية ذات شأنٍ وصدقية، يصلون الى نتيجة محتومة خلاصتها أن الإسرائيلي لن يُخلي المواقع التي لا يزال يحتلها في الجنوب إلّا بعد التوصل الى اتفاقات مع لبنان يصفها البعض بالتطبيع والبعض الآخر يذهب الى حد الكلام على علاقات ديبلوماسية. وقبل نحو عشرة أيام ضج الإعلام الإسرائيلي بكلام عن مفاوضات تطبيعية مع لبنان الذي سارع الى نفيها بشدة، حتى إن العدو نفاها بدوره… ويتردد أن تعميمها (وإنْ كاذبة) كان مقصوداً وبمثابة «بروفا» اختبارية من جهة ولتداول عبارة «التطبيع مع لبنان» من جهة ثانية في إطار الحرب النفسية.
طبعاً، الموقف اللبناني من هذه المسألة واضح ومزمن، ولا يبدو أن ثمة تعديلاً عليه، حتى إشعار آخر على الأقل، وهو أن لبنان «سيكون آخر بلد بين الأقطار العربية» الذي يذهب الى التطبيع مع العدو والاعتراف به. هذه «الثابتة» هل تبقى مستدامة في ضوء المستجدات الكثيرة في المنطقة على المستويات كافة: الاستراتيجية والجيوبوليتيكية والديموغرافية وبالطبع العسكرية الخ…؟
في الإعلام الأوروبي والأميركي كلام كثير على أن الاهتمام الخارجي والعربي والإقليمي بالاستحقاقات اللبنانية المهمة لم يكن لوجه الله ولا إكراماً لثلج لبنان وفقش موج بحره ودفء شاطئه، إنما من أجل الإعداد الى سلام مستدام بين هذا البلد والكيان العبري أسوة بالبلدان العربية التي سبقته في هذا المجال. وأن مثل هذا «الحل» من شأنه أن يوفر أمناً واستقراراً فإزدهاراً لهذا الوطن… ولكن هل هذا الاستنتاج عقلاني، وصحيح ويمكن الرهان عليه؟!.
الأمر يدعو الى الكثير من التبصر والروية والدراسة العميقة، لأن أي خطوة ناقصة في هذا السياق ستكون تداعياتها كارثية.