شبكة أمان سعوديّة لوحدة السّودان

بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
أحكم الجيش السوداني سيطرته على العاصمة واستعاد مدنها الثلاث، الخرطوم وخرطوم بحري وأمّ درمان، واسترجع القصر الجمهوري في شارع النيل على ضفاف النهر ومباني الوزارات الرئيسية من قبضة “قوات الدعم السريع” التي باتت في وضع عسكري صعب، من شأنه أن يرسم مساراً جديداً لمستقبل السودان.
يشبّه السودانيون عاصمتهم ببطن الفيل، لكبر مساحتها ولاحتضانها أكثر من 11 مليون نسمة يشكّلون ربع السكان، ولأنّها تتوسّط البلد وتشكّل قلبه النابض ونموذجاً مصغّراً لتنوّعه الإثني والديني والقبلي والاجتماعي. هنا تكمن أهمّية السيطرة على الخرطوم التي جعلت الحرب الحالية مغايرة لكلّ الحروب السودانيّة السابقة.
في الماضي كانت المعارك تنحصر في الولايات البعيدة ونادراً ما طاولت الخرطوم. أمّا هذه الحرب فانطلقت شرارتها الأولى في العاصمة وتوسّعت في أحيائها، ثمّ انتقلت إلى الولايات البعيدة في الشرق والغرب. هكذا صار لسقوط الخرطوم في يد الجيش منحى استراتيجي مختلف، لا سيما بعدما شمل التقدّم العسكري للجيش مناطق مدني وأمّ روابة وقرّي وشرق النيل وولايات سنار والجزيرة، وبعدما حاصر مدينة الأبيض الاستراتيجية شمال كردفان.
لا يعني سقوط الخرطوم بيد الجيش أنّ الحرب وضعت أوزارها، وأنّ الأمور عادت إلى نصابها، فكلّ الاحتمالات لا تزال واردة، في ظلّ احتفاظ قوات الدعم السريع بمناطق شاسعة، لا سيما في إقليم دارفور الغنيّ بالموارد والمفتوح على حدود تشاد، التي لا تخفي دعمها المكشوف لقوّات الدعم وقائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي”. وذلك نظراً إلى المساندة الإماراتية المادّية والعسكرية الكبيرة لهذا الفصيل، وحضور العامل “التآمريّ” الإسرائيلي الذي جعل من السودان ووسط إفريقيا والبحر الأحمر والأمن القومي العربي، وخصوصاً بشقّيه المصري والسعودي، هدفاً رئيسياً في مساعيه الحثيثة لتغيير الشرق الأوسط الكبير من حدود باكستان شرقاً إلى العمق الإفريقي جنوباً وشرقاً والعبث بأمنه.
يضاف إلى هؤلاء ضيفٌ جديد هو أوكرانيا التي وجدت في الوجود الروسي في وسط إفريقيا وميناء بورسودان هدفاً جديداً لها، فأمدّت حميدتي بالمسيّرات القاتلة والمستشارين العسكريين.
تغيُّرات دوليّة وإقليميّة لمصلحة الجيش
ساهمت عوامل داخلية عدّة في انقلاب كفّة الميزان العسكري لمصلحة الجيش السوداني، لكنّها وحدها لم تكن كافية لإحداث تغيير كبير بحجم سقوط العاصمة في قبضته. فهذا لم يكن ليحصل لولا حدوث تغيّرات في مواقف الدول الإقليمية تجاه ما يجري في السودان، لا سيما بعدما لاح شبح تقسيم هذا البلد مجدّداً وزادت الخشية من الاستثمار الإسرائيلي الخطير للوضع الناشئ من أيّ تقسيم محتمل.
كان احتمال التقسيم بمنزلة جرس إنذار خطير لكلّ من مصر التي يشكّل السودان صمام أمان لحدودها الجنوبية، والمملكة العربية السعودية التي ترى البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وفي القلب منه السودان، خطَّ دفاعٍ أوّلَ عن عمقها الغربي وحماية حدودها ودورها الإقليمي والاقتصادي الذي ازداد اتّساعاً وتأثيراً حتّى بلغ حدّ العالمية.
تشاركت القاهرة والرياض هذا الهاجس مع كلّ من تركيا وروسيا وقطر وإريتريا والأردن ومجلس الأمن والسلم الإفريقي، كلٌّ من منطلقه الخاصّ والمصالح التي تحتّم الحفاظ على وحدة البلد العربي والإفريقي، وهذا ما وفّر للجيش السوداني غطاءً دوليّاً ودعماً كبيراً لقلب الوقائع على الأرض، لعلّ الحسم العسكري يؤدّي إلى تثبيت الوحدة بعدما فشلت كلّ جولات المفاوضات السابقة بين المتخاصمين في إيجاد أرضيّة مشتركة للتصالح وإرساء الأمن والاستقرار وإنهاء الحرب والمأساة الإنسانية الفظيعة التي تسبّبت بها وإعادة بناء الدولة.
الحرص السّعوديّ على وحدة السّودان
كان الحدث الأبرز في هذا التوجّه الجديد نحو السودان استقبالَ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لرئيس المجلس السيادي الانتقالي في السودان قائد الجيش عبدالفتّاح البرهان والتوافق على إنشاء مجلس تنسيق يُعنى بتعزيز العلاقات الثنائية في شتّى المجالات، وهو ما يؤكّد رغبة السعودية في المساهمة بفعّالية في جهود إعادة الإعمار والتنمية المستدامة في السودان.
سبق ذلك بيان لوزارة الخارجية السعودية في 28 شباط الماضي أكّد “رفض المملكة العربية السعودية لأيّ خطوات أو إجراءات غير شرعيّة تتمّ خارج إطار عمل المؤسّسات الرسمية لجمهورية السودان قد تمسّ وحدتها ولا تعبّر عن إرادة شعبها الشقيق، بما في ذلك الدعوة إلى تشكيل حكومة موازية”.
اتّجه البرهان إلى السعودية بعدما حسمت موقفها الرسمي من الوضع في السودان وقرّرت الانحياز إلى فريق الجيش على حساب “الدعم السريع”، وتجاوزت توقّعات سابقة رجّحت تأييد كفّة قائد “حميدتي” في الحرب، إذ كان شريكاً فعّالاً في التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن.
كانت المملكة استضافت قبل سنتين جولات مهمّة من التفاوض بين طرفَي الأزمة، عبر منبر جدّة، تمخّضت في النهاية عن التوصّل إلى اتّفاق سياسي أسهم في حماية أرواح المدنيين، وضمان وصول المساعدات للمناطق المنكوبة.
وقفت المملكة على مسافة واحدة
تحرّكت الرياض آنذاك انطلاقاً من حرصها على وحدة السودان، فوقفت حينها على مسافة واحدة من الجيش بقيادة البرهان و”الدعم السريع” بقيادة حميدتي، إدراكاً منها أنّ لكلّ منهما تأثيراً على كيانات قبلية إثنية داخل السودان يمكن أن تقود إلى تقسيم جديد من الممكن تحقيقه بسهولة إذا ما حصل على دعم أميركي ودولي متاح، خصوصاً أنّ فكرة التقسيم قد يجري تسويق أنّها ناجمة عن التهميش السياسي والاقتصادي، وإذا ما زجّت فيه قضايا الهويّة والدين والإثنية والقبلية.
كانت السعودية تنظر سابقاً إلى الجيش بقيادة البرهان باعتباره المؤسّسة العسكرية الوحيدة التي تمثّل السودان، في حين كانت تنظر إلى “الدعم السريع” التي انبثقت من الجيش نفسه على أنّها منتج سودانيّ محلّي وليست صناعة خارجية، وأنّ لها عمقاً قبليّاً، وأنّها ساهمت في إعادة الاستقرار في إقليمَي دارفور وجنوب دارفور في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير. وكانت ترى في دقلو شخصية وطنية ساهمت في إعادة الاستقرار ومنع تقسيم السودان مرّة ثانية، ورفضت شيطنته من جانب الجيش.
كانت تخشى من النزعة “الإخوانية” المتطرّفة لدى بعض ضبّاط الجيش والميليشيات الإسلامية التابعة له. وانطلاقاً من ذلك انتزعت الرياض في مفاوضات جدّة السابقة من الطرفين تعهّداً بالتمسّك بمبدأ السودان الواحد وعدم تكرار تجربة انفصال جنوب السودان التي أفقدت الخرطوم 70 في المئة من ثرواته النفطية والطبيعية بعد حرب استمرّت 38 سنة تسبّبت بخسائر بشرية ومادّية فظيعة.
الحكومة الموازية لحميدتّي قلبت المشهد
أثار إعلان “قوات الدعم السريع” والقوى السياسية والحركات المسلّحة المتحالفة معها في نيروبي تشكيل “حكومة سودانية موازية”، غضباً في الداخل والخارج، لا سيما في القاهرة والرياض اللتين اعتبرتا أنّ الخطوة تهدف إلى انتزاع الشرعية من الحكومة السودانية والمجلس السيادي، ومن شأنها أن تمهّد لتقسيم السودان وضرب مؤسّساته الوطنية، ومن شأنها توسيع دائرة التدخّل الخارجي وفتح الباب أمام نيل الاعتراف من بعض الدول الداعمة لهذه القوى، ثمّ فرض الحكومة الموازية كأمر واقع على المجتمع الدولي وإضفاء المزيد من التعقيد على المشهد السياسي في السودان وتسعير الحرب الأهليّة.
هكذا جاء الاستقبال اللافت للبرهان في مكّة بمنزلة تأكيد استمرار الدعم السعودي للمؤسّسات السودانية الشرعية والتمسّك بوحدة الأراضي السودانية، والتشديد على أهمّية السودان في معادلة الأمن والاستقرار في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وإعادة تقديم السودان لاعباً أساسيّاً في استقرار المنطقة العربية في ظلّ التحدّيات الراهنة.
بالنسبة إلى الرياض سيكون من شأن تقدُّم الجيش السوداني عسكريّاً أن يدفع نحو العودة إلى التسوية السياسية على قاعدة إعلان منبر جدّة، الذي تعرّض لانتكاسة الفترة الماضية، وهو ما سيفكّر فيه البرهان بعد انتصارات الجيش العسكرية التي ستسمح له بفرض شروطه على قوات الدعم السريع التي كُسرت شوكتها في الخرطوم.
من المتوقّع أن يستخدم قائد الجيش السوداني ورقة البحر الأحمر لطمأنة السعودية والتأكيد أنّه لا ينوي الموافقة على أيّ قواعد عسكريّة لروسيا أو إيران أو تركيا، وأنّه عازم على ترك هذه الورقة، مقابل الحصول على تطمينات بمساعدات اقتصادية منها، وتطوير علاقته مع الإدارة الأميركية الراغبة في إنهاء الحرب، والتي تربطها علاقات وطيدة مع الرياض حاليّاً في مجال تسوية الصراعات الإقليمية والدولية.
في المقابل تحتاج السعودية إلى سودان هادىء من أجل توطيد سياسة التوازن والاستقرار في محيطها الاقليمي ولقطع الطريق أمام الاستغلال الإسرائيلي للفوضى لغزو هذه المنطقة الاستراتيجية والحسّاسة.
أمين قمورية