سوريا: من هم المغضوب عليهم؟ ومن هم الضّالّون؟

بقلم محمد السماك

«أساس ميديا»

اتّخذت السلطات الجديدة في سوريا قراراً حكيماً بإعادة النظر في برامج التربية والتعليم التي فرضها النظام السابق. تتمثّل الحكمة في هذا القرار في التحرّر من ثقافة تقديس شخص الرئيس وعائلته وجماعته المذهبية. وشملت هذه العملية إعادة النظر ببرامج التعليم الديني.. وذلك استناداً إلى آية من سورة الفاتحة في القرآن الكريم.

 تقول هذه الآية الكريمة: “إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالّين“. فقد تردّد أنّ التفسير المعتمد لهذه الآية هو اعتبار اليهود هم المغضوب عليهم، والنصارى هم الضالّين. وهذا تفسير خاطئ ومناقض للنصوص الإسلامية الثابتة في القرآن الكريم وفي السنّة النبوية. فعندما يتحدّث القرآن الكريم عن اليهود والنصارى يسمّيهم بأسمائهم ويصفهم بـ”أهل الكتاب”.

القاعدة الإيمانية التي يقوم عليها الإسلام تقول: “وقل آمنّا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربّهم، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (سورة آل عمران – الآية 87). وتقول هذه الآية أيضاً: “شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه”. (سورة الشورى – الآية 13 ).

علاقة الإسلام مع المسيحيّة واليهوديّة

توضح الآيتان من القرآن الكريم القاعدة العامّة لعلاقة الإسلام مع المسيحية واليهودية. وهي علاقة تكامليّة وليست إلغائيّة، ثمّ إنّها علاقة تقدير واحترام وقداسة. ترجم هذه العلاقة رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم في أحاديثه المؤكّدة وفي مواثيقه الثابتة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عهدته الموثّقة إلى مسيحيّي نجران (اليمن): “لا يغيّر أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته، ولا حبيس من صومعته، ولا سائح من سياحته، ولا يُهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمين. فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله، ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبّد جزية ولا غرامة”.

يذهب النصّ النبوي إلى أبعد من ذلك فيقول: “وإن أجرم أحد من النصارى أو جنى جناية، فعلى المسلمين نصره والمنع والذبّ عنه والغرم عن جريرته، والدخول في الصلح بينه وبين من جنى عليه، فإمّا منّ عليه أو يفادي به، ولا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً لأنّي أعطيتهم عهد الله على أنّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين”.

من الوثائق النبوية الرسمية الثابتة أيضاً رسالته إلى دير سانت كاترين في سيناء. في ذلك الوقت وجّه النبي رسائل إلى قادة ورؤساء الدول المجاورة يدعوهم فيها إلى الإسلام. غير أنّ الرسالة التي وجّهها إلى الدير لم تتضمّن دعوة إلى الإسلام، بل تعهّدت بحماية الدير وأهله وأتباعه على ما هم عليه. وجاء في الرسالة (التي أملاها الرسول على عليّ بن أبي طالب) قول: “والله لأمنع كلّ ما لا يرضيهم، فلا إكراه عليهم، ولا يُزال قضاتهم من مناصبهم، ولا رهبانهم من أديرتهم. لا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين”.

الصّوت ضدّ الظّاهرة التّدميريّة

رفعت المرجعيات الإسلامية صوتها ضدّ هذه الظاهرة التدميرية الخطيرة. في عام 2012 صدرت عن الأزهر وثيقة الحرّيات الدينية التي نصّت على اعتبار “حرّيّة العقيدة، وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامّة في الحقوق والواجبات، حجرَ الزّاوية فى البناء المجتمعي الحديث، وهي حرّية مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية”.

إذ يقول المولى عزّ وجلّ: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”، ويقول: “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”، ويترتّب على ذلك تجريم أيّ مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد  أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، من دون أن يمسّ حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها  قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العامّ”.

أكّد بيان الأزهر أنَّ المسلمين والمسيحيين في الشرقِ هم إخوةٌ، ينتمون معاً إلى حضارةٍ واحدةٍ وإلى أمّةٍ واحدةٍ، عاشوا معاً على مدى قُرون عديدة، وهم عازِمون على مُواصلةِ العيشِ معاً في دولٍ وطنيةٍ سيِّدةٍ حُرّةٍ، تُحقِّقُ المساواةَ بين المواطنين جميعاً، وتحترمُ الحريَّات.

تعدُّدَ الأديانِ والمذاهب ليس ظاهرة طارئة في تاريخنا المشترك، فقد كان هذا التعدّد وسيبقى مصدرَ غنى لنا وللعالم، يَشهدُ على ذلك التاريخ.

وعلاقاتِ المسلمين مع المسيحيين تاريخيَّةٌ، وتجربةُ عيشٍ مُشتَرك ومُثمِر. ولدينا تجاربُ يُحتَذى بها في مصرَ وفي العديد من الدول العربية الأخرى جرَى تطويرُها باتّجاه المواطنة الكاملة حقوقاً وواجبات. ومن هنا، فإنَّ التعرُّضَ للمسيحيين ولأهل الأديان والعقائد الأخرى باصطناع أسبابٍ دِينيَّةٍ، هو خُروجٌ على صحيحِ الدِّينِ وتوجيهاتِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وتنكّرٌ لحقوقِ الوطنِ والمواطنِ.

التعدّد الديني أساس الدولة..

في العام ذاته، عُقد في بيروت مؤتمر حول الحرّيات الدينية (22 حزيران 2015) نظّمته جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، صدر بنتيجته بيان حول الإسلام والحرّيات الدينية نصّ على أنّ:

“انتهاك حقوق الجماعات المسيحية في ممارسة حرّياتها الدينية وفي رعاية شأن كنائسها وأديرتها ومؤسّساتها التعليمية والاجتماعية، هو انتهاك لحقوق الإنسان، وانتهاك لحقوق المواطنة. وفوق ذلك هو انتهاك لتعاليم الإسلام الذي تُرتكب هذه الانتهاكات باسمه.

إنّ ثقافتنا الإيمانية تدعونا إلى نبذ الإكراه وإلى احترام حرّية الضمير وإلى تقبّل الاختلافات بين الناس على أنّها تعبير عن الإرادة الإلهية. فلله وحده، سبحانه وتعالى، سلطة الحكم على ما في قلوب الناس وعلى ما كانوا فيه يختلفون”.

تقوم هذه الأدبيّات الدينية على قاعدة وثيقة المدينة المنوّرة التي صدرت عن النبيّ محمّد عليه السلام شخصيّاً ونصّت على أنّ “المسلمين (أي الذين آمنوا بمحمّد عليه السلام وبرسالته)، والمؤمنين (أي اليهود والمسيحيين) يشكّلون أمّة من دون الناس”، أي أنّهم أمّة واحدة على اختلاف أديانهم. وربّما هذا النصّ هو الأوّل في تاريخ العلاقات بين أهل الأديان الذي يعتبر التعدّد الديني أساساً في إقامة الدولة الواحدة والمجتمع الواحد.

قواعد الاتّفاق

على قاعدة هذه المبادئ العامّة والكلّية، تمّ الاتّفاق على:

  • دعوة علماء ومفكّري المسلمين إلى أن ينظروا لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات، بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية، وباستيعاب المتغيّرات التي حدثت في العالم.
  • دعوة المؤسّسات العلمية والمرجعيات الدينية إلى القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدّي لإخلال الثقافة المأزومة التي تولّد التطرّف والعدوانية، وتغذّي الحروب والفتن، وتمزّق وحدة المجتمعات.
  • دعوة الساسة وصنّاع القرار إلى اتّخاذ التدابير السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق المواطنة التعاقدية، وإلى دعم الصيغ والمبادرات الهادفة إلى توكيد أواصر التفاهم والتعايش بين الطوائف الدينية في الديار الإسلامية.
  • دعوة المثقّفين والمبدعين وهيئات المجتمع المدني إلى تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقلّيات الدينية في المجتمعات المسلمة، ونشر الوعي لحقوقها، وتهيئة التربة الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية الحاضنة لهذا التيار.
  • دعوة مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية متبادلة، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك ومدّ جسور الثقة بعيداً عن الجور والإقصاء والعنف.
  • دعوة ممثّلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدّي لكلّ أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدّسات وكلّ خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية.
  • وأخيراً التأكيد أنّه “لا يجوز توظيف الدين في تبرير أيّ نيل من حقوق الأقلّيات الدينية في البلدان الإسلامية”.

من هم الضّالّون والمغضوب عليهم؟

كان لا بدّ من هذه الجولة في أسس وفي مستجدّات الفكر الفقهي الإسلامي، قبل الإجابة على السؤال الأوّل: إذا لم يكن اليهود هم المغضوب عليهم، وإذا لم يكن المسيحيون هم الضالّين، فمن هم الضالّون؟ ومن هم المغضوب عليهم؟

يقول القرآن الكريم: “ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون” (سورة المائدة – الآية 82). لا يُعقل أن يكون هؤلاء من الضالّين، وحتماً ليسوا من المغضوب عليهم. فالضالّون هم الذين ضلّوا سواء السبيل بعدم اتّباع ما أنزل الله في كتبه ومن خلال رسله من دون أن يكونوا بالضرورة من دين محدّد أو من مذهب معيّن. والمغضوب عليهم هم الذين اجتهدوا وعملوا على صناعة الفكر التضليلي ودعوا إليه وزيّنوا للناس اتّباعه. فكان من الطبيعي أن يغضب الله عليهم.

إنّ ما ورد في القرآن الكريم وفي كتب الله الأخرى التي أوحى بها إلى رسله هو الصراط المستقيم. والذين ضلّوا عن هذا الصراط هم الضالّون، والذين حرّضوا على الضلال وزيّنوا فرص الخروج منه وعليه هم الذين غضب الله عليهم. والفريقان ليسا من أتباع دين محدّد بالضرورة، بل هم من أتباع الفساد في الأرض.

إنّ الإسلام الذي يدعو أهل الكتاب اليهود والنصارى إلى “كلمة سواء”، والذي يقول: “لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً” (سورة المائدة – الآية 48)، والذي يدعو إلى الاحتكام إلى الله يوم القيامة (وليس إصدار الأحكام في الحياة الدنيا). هذا الإسلام يطمئن المؤمنين، جميع المؤمنين… “والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (سورة البقرة – الآية 62).

لذلك لا يمكن أن يكون هؤلاء من الضالّين، ولا من المغضوب عليهم… بل هم أخوة في الإيمان.

محمد السماك