بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
التقى آموس هوكستين ثلاثَ جهاتٍ في بيروت يُفترض أن تكون متمايزة على الأقلّ أو حتى متباينة.
التقى نبيه برّي، الذي يمثّل نفسه و”حركته” وبرلمان لبنان. لكنّه أيضاً يمثّل الحزب.
كما التقى النوّابَ المعارضين لمحور “الحزب”.
وبين الاثنين التقى نجيب ميقاتي، رئيس الحكومة التي صودف أنّها “كانت هناك”، فاستمرّت بما استطاع الرجلُ من سُبلٍ وأفق.
المهمّ أنّ الأطراف الثلاثة خرجوا مرتاحين إلى لقاء آموس. فيما لا شيء في الأجواء يدعو إلى ارتياح.
فما هو سرُّ هذا الرجل القادر على “ترييح” المتناقضين؟
وكم سرّاً أخفى منذ تسلّمه ملفّاتنا، حتى “ترسيمه البحريّ” المريح، انتهاءً بأمس بالذات؟!
سرٌّ أوّل ما زال مكتومَ الخلفيّات والحيثيّات، كشفه زميلُ آموس هوكستين وسلفُه، فريديريك هوف.
كان الأخير دبلوماسياً أميركياً عريقاً. تسلّم مسؤوليّاتٍ كبيرة. ليس أقلّها عمليّة الخرق التاريخي على مسار السلام بين سوريا وإسرائيل، التي وضعَ لها كتاباً كاملاً بعنوان “بلوغ المرتفعات”، حيث يروي أنّ بشار الأسد كان قد وافق على التسوية في ظلّ تردّدٍ وإرباكٍ من بنيامين نتنياهو قبل أن تنفجر أحداث سوريا في آذار 2011، فتفجّرَ مساعيه كلّياً.
المهمّ أنّ هوف تسلّم أيضاً ملفَّ لبنان، وتحديداً ملفَّ ترسيمه البحريّ مع إسرائيل، كما المنصبَ المختصّ بذلك في وزارة الخارجية الأميركية حتى مغادرته العمل الحكومي مطلع عام 2013.
هوكستين والنميمة حول هوف
بعد نحو سبعة أعوام، كتب هوف بحثاً مطوّلاً ومذهلاً بالوقائع، على موقع “newlinesmag.com”. المثيرُ فيه روايتُه كيف أنّ سفير لبنان في واشنطن يومذاك اتّصل به ذات نهارٍ للقائه بشكل طارئ، وليخبره أنّ المعلومات في بيروت بأنه لم يستقِلْ من عمله، بل تمّ فصله.
ثمّ يُسهب هوف بالأسماء والتواريخ، كاشفاً كيف أنّ سفيرة بلاده في بيروت سمعت الخبر نفسه، وحتى نبيه بري أيضاً. حتى إنّه اضطرّ إلى زيارة العاصمة اللبنانية وتكذيب الأمر وعرض قرائنه على دجل كلّ ما أُشيع، واكتشف “بعد أعوام أنّ الموظّف الذي خلفني في وزارة الخارجية، في مسائل لبنان وإسرائيل البحريّة، هو من أشاع تلك القصّة”.
لم يسمِّ هوف من يقصد في بحثه الطويل. لكنْ ربّما لا لزوم لذلك!
ظلّت واقعة مكتوبة ومنشورة كهذه، بما فيها من ذكرٍ لأسماء سفيرٍ لبنانيّ، وسفيرةٍ أميركية، ورئيسِ مجلس النواب اللبناني، طيّ التجاهل وعدم التناول وحتى النسيان!
مهمّة ضرب خطّ الغاز الرّوسيّ
سرٌّ ثانٍ ارتبطَ بصعود آموس شبه الصاروخي في سلّم الإدارة الأميركية، مع ما لذلك من انعكاسٍ على دوره في لبنان تحديداً. ذلك أنّ الموقع الأبرز الذي شغله الرجل كان بدءاً من آب 2021 حين صار فعليّاً “مساعدَ الرئيس” الأميركي جو بايدن، و”مستشاره لشؤون الطاقة” و”مبعوثاً رئاسياً”. وهو الموقع الذي جاء به إليه مستشار بايدن لشؤون الأمن القومي، جيك سوليفان بالذات.
يومَها كشفَ الإعلام الأميركي أنّ هذا التعيين مرتبطٌ بمهمّةٍ محدّدة، ألا وهي ضربُ خطِّ الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية، “نورد ستريم”. وقيل يومَها أنّ الخطوة كانت بدايةَ التحضير الأميركي لتمكين أوكرانيا ودفعها إلى مواجهة روسيا، وهو ما تطوّر عمليّاً إلى حرب موسكو على كييف بعد أقلّ من سنة فقط.
اللافت هنا أيضاً أنّ آموس هوكستين نفسه، يوم عُرض عليه ذاك المنصب وتلك المهمّة بالذات، كان عضواً في مجلس إدارة شركة الغاز الأوكرانية “نافتوغاز”!
كانت وظيفته في واشنطن قبل ذلك ضمن “مجموعات الضغط” (لوبي) لمصلحة شركات نفطية وغازية بشكل رئيسي.
المهمّ أنّ التحليلات الأميركية ربطت يومها بين ضرب “نوردستريم” وبين العمل أميركياً وإسرائيلياً للاستعاضة عنه بواسطة خطّ “حوض شرقي المتوسّط”، أي أنبوب بحريّ جديد، من إسرائيل إلى أوروبا، عبر قبرص فاليونان فإيطاليا.
آموس يخدع الحزب
بعد أشهر قليلة على هذا الكلام، نجح آموس هوكستين في ترسيم البحر بين إسرائيل ولبنان عبر اتفاقية دولية مسجّلة في الأمم المتحدة رسمياً أمميّاً وعلناً بين “حكومة لبنان ودولة إسرائيل”. ونجح في إقناع الجميع حتى قيادة الحزب بأنّ هذه الخطوة هي بدايةٌ “لكسر الحصار الأميركي على لبنان”، ومنطلقٌ لتدفّق الاستثمارات والخير والازدهار، حتى الإغراق والاختناق، كما قالوا وكتبوا. فيما كان الباحث الصهيوني إسحاق ليفانون يكتب في إسرائيل: دعوا اللبنانيين يتباهوا ما شاؤوا، فالمهمّ أن يوقّعوا لأنّه سيكون أكبر انتصار دبلوماسي لإسرائيل منذ عقود!!
حصل التوقيع، واحتفل لبنان وإسرائيل معاً. وابتسم آموس طويلاً وكثيراً، حتى كتبَ الخبير النفطي سيمون هندرسون في آذار الماضي، مؤكّداً بدءَ الإنتاج الغازيّ من حقل كاريش الإسرائيلي.
لفت إلى أنّه لولا غاز كاريش، لعرفَ الكيان الصهيوني عتمةً أكبر بعد 7 أكتوبر. ولولا تنازل لبنان لما عرف الكيان غاز كاريش، كما قال الباحث الدوليّ!
السّرّ الثالث في بيروت وضاحيتها
سرٌّ ثالثٌ ارتبط بآموس هوكستين قبل أيام قليلة، وما عاد سرّاً أو لم يكن كذلك أصلاً.
في 27 تموز الماضي وقعت مأساة في قرية بلدة مجدل شمس السورية المحتلّة سقط فيها أطفالٌ سوريون لا غير.
لكنّ غباء وتقصير المعنيّين سمحا لنتنياهو بأن يجعل من نفسه زوراً وليَّ دم هؤلاء وكفيل الثأر لهم، فبدأت اتّصالاتٌ دولية لاحتواء ذلك. قيل أنّ آموس هوكستين ساهم فيها. لكنّه لم ينقل أيّ تطمين ولا أيّ رسالة ولا أيّ ضمانة. وهذا ما فهمه بشكل جليّ رئيسُ المجلس نبيه بري ورئيسُ الحكومة نجيب ميقاتي. وهذا ما أكّداه علناً وأكّده آموس أيضاً من أنّه لم يُطمئنْ ولم يضمنْ ولم ينقلْ رسائل.
لكن على الرغم من ذلك، وصلت رسالتان من مصدرين آخرين إلى الحزب بأنْ لا تقلقوا، لقد أعطانا الأخ آموس تطميناتٍ وضمانات بأن لا ضربة إسرائيلية على بيروت، ولا على ضواحيها.
بعد ثلاثة أيام، اغتالت إسرائيل مسؤول الحزب العسكري في قصف في قلب ضاحية بيروت الجنوبية!
السّرّ الأخير.. ونكتة وليد المعلّم
أمس كان موعدُ بيروت مع سرّ آموس الأخير.
قال في أحد لقاءاته بصراحة: نصيحتي لكم ألّا تنزلقوا إلى أيّ ردٍّ من جنوب لبنان لأنّ نتنياهو ينتظره متلهّفاً وسيتلقّفه فوراً.
ففهم البعض أنّ المطلوب إرضاءُ الحزب بثمنٍ ما مقابلَ عدمِ ردّه.
قال الرجل نفسه في لقاء ثانٍ إنّ المطلوب تطبيق القرار 1701 بكلّ مندرجاته، وإنّ ذلك سيكونُ بلا أيّ ثمنٍ رئاسيٍ ولا سياسي لأيٍّ كان.
ارتاح الجميع المتباين المتناقض إلى كلام آموس هوكستين، بانتظار ما سيخرج من الدوحة، من أسباب ارتياحٍ أو مآسٍ جديدة.
ما سرُّ هوكستين في هذه القدرة على “ترييح” المختلفين، وهو الرجل الذي لا يُخفي سيرته ولا ماضيه ولا جنسيّته الإسرائيلية ولا خدمته العسكرية، ولا يكذّب ولا يناور ولا يستخدم لغتين ولا وجهين؟
قد يكونُ الجواب في واقعة منقولة عن وزير الخارجية السوري الراحل وليد المعلم. إذْ كان الدبلوماسي العتيق على موعد مع نظيرته الأميركية اللدود كوندوليسا رايس، في شرم الشيخ سنة 2007. وفيما هو جالس ينتظرها، دخلت بغتةً مسرعةً ملقيةً التحيّة بصوت جهوريّ، وهي تقول لمحاورِها الخصم: جئتُ إليك اليوم وليس معي ديفيد واحد، بل اثنان. في إشارة منها إلى مساعدَيْن من فريقها يحملان الاسم نفسه. فحبكت نكتة المعلّم بأن أجابها فوراً: ممتاز! فنحن في منطقةٍ كلّما أكثرتِ من رجال “ديفيد” ( في إشارة إلى اسرائيل واللوبي الصهيوني في أميركا) كلما صدقناك أكثر”!
جان عزيز