بقلم رنا نجار
«أساس ميديا»
قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي أوقعت حلب وحماه في يد المتطرّفين الإسلاميين في سوريا، كان هناك من عمل على مشروع “متحف سجون داعش”، مقدّماً 70 ألف وثيقة، وأفلاماً وثائقية ثلاثيّة الأبعاد تُجسّد المحاكمات الظالمة، وتقسيم السجون، وحياة السجناء اليومية. كما يقدّم للزائر جولاتٍ ثلاثية الأبعاد (3D) لعشرات المواقع التي شهدت انتهاكات… ويعيد بناء مسارح الجرائم باستخدام الشهادات والوثائق. كما يوثّق المقاومة المدنية التي أبدتها المجتمعات المحلّية ضدّ حكم “داعش” ونظام “الحسبة”… هنا جولة في المتحف المُتاح “أونلاين” على العنوان isisprisons.museum.
لكي لا تكون ذاكراتنا مثقوبة تتسرّب منها الأحداث والعبر، لا بدّ من توثيقها كي تزيد الوعي والإدراك عند الأجيال المقبلة.
لا تختلف داعش عن إسرائيل، ولا إسرائيل عن داعش، فهما وجهان لعملة واحدة، يتشاركان العنف والوحشية والدماء التي لا يتوقّف نزفها في بلاد الشام، المنطقة التي تثقلها الصراعات من احتلال وعدوان، وميليشيات طائشة، وحكومات فاسدة، وأحزاب انتهازية، وتنظيمات متطرّفة. مع كلّ كارثة جديدة، ننسى أو نُجبر على نسيان ما سبقها من نكبات. من يوثّق هذه الجرائم؟ ومن يكتب التاريخ الحديث لكلّ هذا العبث؟ ولماذا تبقى ذاكرتنا مثقوبة وعاجزة عن الاحتفاظ بالمآسي؟ ربّما لأنّنا نفتقر إلى آليّات علمية وإبداعية لتوثيقها وسردها وتسويقها بلغتنا ومن وجهة نظرنا.
تبرز أهمّية “متحف سجون داعش” الرقمي التفاعلي (isisprisons.museum) في كونه مبادرة مجتمعية فريدة تهدف إلى توثيق جرائم وانتهاكات تنظيم داعش، سواء تلك التي شاهدها العالم عبر الشاشات أو بقيت طيّ النسيان. اختار المتحف السجون كنقطة انطلاق، خصوصاً في الرقّة والموصل، حيث شهدت هذه الأماكن اختفاء قسريّاً لعشرات الآلاف، بالإضافة إلى التعذيب والإعدام.
يحوّل المتحف المادّة الخبريّة إلى تحقيقات وأفلام وثائقية ثلاثيّة الأبعاد تُجسّد المحاكمات الظالمة، وتقسيم السجون، وحياة السجناء اليومية. كما يوثّق أشكال التعذيب وأدواته. يضمّ أرشيفه موادّ ضخمة تشمل وثائق قضائية وماليّة وعسكرية، مراسلات، تقارير مخبرين، وإحصاءات عن المقابر الجماعية والإعدامات.
وثّق المتحف شهادات حيّة لسجناء محرّرين وعائلات المختفين، إضافة إلى تصوير جولاتهم في السجون السابقة والكتابات على الجدران. بفضل التقنيات الفنّية المتطوّرة، يقدّم المتحف محتواه بطريقة تفاعلية تجذب الزائر وتوضح الخلفيّات الفكرية والتنظيمية لداعش، وهو ما يسهم في إبراز عمق الانتهاكات التي ارتكبها التنظيم.
المساهمة في تحقيق العدالة
أكّد مدير المتحف الصحافي عامر مطر، في حديث لـ”أساس”، أنّ “الهدف من هذه المبادرة هو زيادة الوعي العالمي بجرائم داعش، وتوثيق سيَر الضحايا والناجين، والمساهمة في تحقيق العدالة عبر تقديم الأدلّة والوثائق إلى الجهات القانونية لدفع مسارات المساءلة”. وأشار إلى أنّ تحقيق العدالة يبدأ بمساعدة آلاف العائلات التي فقدت أبناءها عبر إتاحة الوثائق والشهادات، وملاحقة المتورّطين في جرائم القتل والإخفاء القسري.
يتضمّن أرشيف المتحف، المتاح باللغتين العربية والإنكليزية، أكثر من 70 ألف وثيقة، بالإضافة إلى متعلّقات السجناء والسجّانين، ولقطات للمقابر الجماعية الموثّقة بالطائرات من دون طيار. منذ 2017، أجرى فريق المتحف مئات المقابلات المصوّرة مع ناجين، وسجّل تفاصيل دقيقة عن السجون والمجازر.
يعرض المتحف للجمهور العالمي جولات ثلاثية الأبعاد (3D) لعشرات المواقع التي شهدت انتهاكات، ويعيد بناء مسارح الجرائم باستخدام الشهادات والوثائق. كما يوثّق المقاومة المدنية التي أبدتها المجتمعات المحلّية ضدّ حكم “داعش” ونظام “الحسبة”. يعمل فريق من الصحافيين والقانونيين والباحثين على تحقيقات استقصائية دقيقة لتوثيق هذه الجرائم، فيما أسّس المتحف منصّة “جواب” لدعم عائلات المفقودين وتكريم الضحايا.
حكاية مبادرة فرديّة أصبحت عالميّة
روى عامر مطر أنّ مشروع “متحف سجون داعش” بدأ عام 2017، مع خروج التنظيم من المناطق التي سيطر عليها في سوريا والعراق. دخل فريق العمل إلى المباني التي حوّلها داعش إلى سجون تضمّنت غرف تعذيب ومواقع إعدام، بحثاً عن زملاء اختطفهم التنظيم في 2013. وعلى الرغم من عدم العثور عليهم، اكتشف الفريق عشرات الآلاف من الوثائق المهمّة، ووثّق مئات الأسماء التي كتبها المعتقلون على الجدران.
تمحورت الخطوة التالية حول أرشفة هذه الموادّ وحفظها قبل هدم أو ترميم المباني، وهو ما قاد إلى إطلاق المشروع بصيغته الحالية. يعمل المتحف بتعاون فريق يضمّ أكثر من 100 شخص، من صحافيين استقصائيين، قانونيين، معماريين، وخبراء في التصميم الثلاثي الأبعاد من مختلف أنحاء العالم، مستخدمين أحدث التقنيات لدمج الصحافة وحقوق الإنسان.
واجه الفريق صعوبات كبيرة، أبرزها العمل في مناطق مزروعة بالألغام وتحت سيطرة قوى مسلّحة مختلفة، وهو ما جعل مهمّة البحث والتوثيق محفوفة بالمخاطر. أشار مطر إلى أنّ الفريق، بما في ذلك أصحاب الشهادات، لا يزال معرضاً للخطر بسبب خلايا داعش النشطة، وهو ما استدعى قراراً بعدم نشر أسماء المشاركين لضمان سلامتهم، خصوصاً بعد اغتيال التنظيم لعدد من الزملاء.
مقالات حول سجون العالم والتّعذيب
يفرد “متحف سجون داعش” قسماً خاصّاً لمقالات توثّق تجارب معتقلين سابقين في سجون مختلفة في العالم، بهدف ربط أساليب القمع في تلك الأنظمة بالسياق القضائي والسجنيّ لتنظيم داعش. أوضح مدير المتحف عامر مطر أنّ وحشية التنظيم لم تنشأ فجأة، بل جاءت نتيجة سياقات تاريخية لأنظمة ديكتاتورية تمتلك سجوناً سيّئة السمعة.
يشير مطر إلى أنّ دراسة سيَر قادة الصفّ الأوّل في داعش أظهرت أنّ العديد منهم سبق أن اعتُقلوا في سجون مثل صيدنايا السوري، أو سجون عراقية وأميركية مثل أبو غريب ومعسكر بوكر، وهو ما أسهم في تكوين بيئتهم العنيفة وأساليبهم القمعية.
معارض في الموصل والرّقّة ولندن وبرلين
إلى جانب حضوره الافتراضي، ينظّم “متحف سجون داعش” معارض مادّية في العالم، بدأ أوّلها في مقرّ منظّمة اليونسكو بباريس تحت عنوان “ثلاثة جدران: حكاية المكان في الموصل القديمة”. يعرض المعرض الأدلّة الجنائية التي جُمعت من مواقع جرائم داعش، إضافة إلى جولات ثلاثية الأبعاد في المواقع التاريخية التي احتلّها التنظيم بين عامَي 2014 و2017.
من المقرّر أن يجول المعرض في الموصل والرقّة ولندن وبرلين خلال العامين المقبلين. افتُتح المعرض في باريس بحفل موسيقي مجّاني لعازف العود العراقي الشهير نصير شمة، فنّان اليونسكو للسلام، مستحضراً الإرث الموسيقي لمدينة الموصل.
رنا نجار