رسالة معلم متقاعد، إلى سيّد الصرح!

بقلم فوزي عساكر

«رئيس تحرير مجلة العالمية»

صباحَ يوم العيد، زارني جاري مطانيوس، معلّمٌ متقاعد في المدارس الخاصة، فاعتقدتُ أنه جاء للمعايدة، لكنّه اصطحبَني إلى غرفة مكتبي، وسلّمَني قلمًا أحمرَ، هذا ما بقي لديه من مهنته، حيث كان يُصحّح به أخطاء الأجيال، التي حكمت البلد باللون الأحمر! وقال لي: القلم الأحمر من عندي، والورقة البيضاء من عندك، واكتُبْ لي رسالةً إلى سيّد الصرح، فيَدي تَرتَجف ولا أقوى على الكتابة!

أَذكرُ- ليس من زمنٍ بعيد- أنني كنتُ أنا وجاري مَحمود، نركب السيارة في يوم عيد الميلاد، ونتوجّه إلى الصرح البطريركي لِمعايدة صاحب الغبطة والنيافة، فيضيّفنا الشوكولا الصحيّة المرّة في أيامنا الحلوة، ونتمنّى له بركة العيد، فيرافقنا إلى عتبة الصالون الكبير وهو يربّت على كتفينا بيَمينه المباركة ويساره الطاهرة، ويهنّئنا بأننا من أعمدة المدارس الخاصة، التي كانت تُخرّج أرباب الأدمغة. ونعود أدراجنا، فلا نغسل معطفينا لأنّهما تباركا من يَدَي سيّد الصرح!

كما نقوم بجولة على المطارنة والكهنة والراهبات اللواتي يضيّفنَ المرصبان من اللوز والسكر. ونعود أدراجنا، فلا نغسل أيدينا من المرصبان، لأنّه شغل الراهبات الطاهرات.

وفي رمضان الكريم، كان يصطحبني محمود لِمعايدة المفتين والمشايخ، فيستقبلوننا في ديارهم الواسعة، ونتضيّف التمر واللوز والجوز والزبيب والجلاّب بالصنوبر النادر، والكثير من عسل مديح الكلام. ويباركوننا لأنّ جاري محمود يدرّس في مدارسهم الراقية.

ثمّ يهزّ جاري رأسه ويقول لي: أكتبْ يا أستاذ أكتبْ…

مَرّةً بسيارتي ومرّةً بسيارة محمود، وهكذا لعقود من الزمن، تكرّرت زياراتُنا لأصحاب الصروح ودور الإفتاء وأديرة الراهبات والرهبان.

أمّا اليوم، وفي عيد الميلاد، فنحن نكتب إليك رسالةً مشتركة يا سيّد الصرح، انا مطانيوس وجاري محمود، لنعتذرَ منك في هذا العام، كما سنعتذر لاحقًا من أصحاب العمامات. فلن نستطيعَ أن نزوركم في الأعياد، لأننا منذ خمس سنوات، ونَحن نتقاضى معاشًا تقاعديّاً من المدارس الخاصة التابعة وغير التابعة لكم، وقدره فقط عشرون دولارًا أميركيّاً في الشهر، لا تكفي لسيارة أجرة. عشرون دولارًا يا سيّد الصرح، أي أقلّ من دولار واحد في اليوم. فاضطررنا لبيع سيارَتَيْنا أنا ومحمود، لنشتري لعائلتَيْنا الدواء والغذاء ولا ضرورة لتبديل الكساء، فهو من الكماليات. المهم تغطية الأجساد كي لا نشكّك المؤمنين في عرضِ مفاتننا في الشوارع!

أعذرنا يا سيّد الصرح، فلم يعد لدينا ما نبيعه لنعيش، ولم نتعوّد بيعَ ضمائرنا بعملة تجّار الحروب، وعشرون دولارًا في الشهر، لا تكفي لسيارة أجرة تقلّنا لِمعايدتكم، فأولادنا المرضى في فصل الشتاء، تصف لهم نساؤنا البابونج وسائر الحشائش لعدم توفّر ثمن الدواء.

خمس سنوات يا سيّد الصرح، هل تعلم أنْ لا دفءَ في بيوتنا بالرغم من العظات الحارة التي نسمعها كل يوم؟!

هل تعلم أنّ مستشفيات القديسين والأولياء والأنبياء لا تستقبل مرضانا؟

هل تعلم أنّ أرزاق الأوقاف هي من مال الفقراء ونذورهم وأراضيهم التي وهبوها بثمن رغيفٍ أيام الحروب، وما زالت الحروبُ في ديارنا؟!

هناك آية في الكتاب المقدس، وجدتُها ساقطة تَحت السطر، تقول: «مَن له ثوبان، فليعطِ ثوبًا لِمَن ليس له.» ما عاد يتّسعُ لها الكتاب، أعذرني فقد مَحوتُها بدموع ولدي الذي يرتَجف من البرد في ليلة العاصفة، خجلاً منه، كي لا يعتقدَ أنني أعلّمه ما هو مَمنوع من الصرف!

يا سيّد الصرح، أنت مؤتَمنٌ على عصاة بطرس، وسيّد العيد أوصاك: «ما تربطه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وما تَحلّه في الأرض يكون مَحلولاً في السماء.»

لِماذا تقتني عصاك؟ ما نفعها على مذبح الربّ؟ إضرب بِها القابضين على رقاب أولادك، ليعطوهم حقوقهم قبل أن يجفَّ حبر قلمي الأحمر!

وأنتم يا أصحاب العمامات، هل نسيتم؟! لكنّ جاري محمود لم ينسَ أنّ الإمام علي أوصى بإعطاء العامل حقه قبل أن يَجفّ عرقه!

يا أولياء الله، مدارسكم التي علّمْنا فيها الحق، تسلب حقوقنا. كيف ينام الرعاةُ قبل جمع خرافهم في الحظيرة؟ لِماذا تتركونَها لشهيّةِ الذئاب؟!

نَحن لا نطلب حسنةً يا سيّد الصرح، ولا نستجدي كرتونة إعاشة، نَحن نصنع الأوطان، ولا نريد إلاّ حقوقنا التي تَحبسُها علينا غالبيّة الـمدارس الخاصة في وطن الحرف والرسالة.

يا سيّد الصرح، إضرب بعصاكَ، قبل أن يتشرّدَ القطيع في غابةِ الذئاب!

فوزي عساكر

التعليقات (0)
إضافة تعليق