بقلم أمين قمورية «أساس ميديا»
لطالما اعتمدت إيران استراتيجية “الدفاع الأماميّ” التي طوّرها قاسم سليماني عبر إنشاء “محور المقاومة”، من أجل إبقاء أيّ مواجهة محتملة مع أيّ خصم أو عدوّ بعيدةً عن أرضها وعمقها الجغرافي. لذا كانت دائماً تردّ على أيّ استهداف إسرائيلي يطاولها، إن كان في سوريا أو غيرها، بتحريك حلفائها وأذرعها لتولّي المهمّة نيابة عنها.
الخيار بين أمرين
للمرّة الأولى منذ أن أطلقت تل أبيب عمليّات اغتيال الضبّاط والمستشارين الإيرانيين واستهداف مواقع الإمداد وتخزين الأسلحة والإسناد في سوريا. كسرت طهران “قاعدتها الذهبية” ووجّهت صواريخها والمسيّرات مباشرة من أراضيها في اتّجاه إسرائيل. ردّاً على قصف قنصليّتها في دمشق، وقتل قياديين في الحرس الثوري أبرزهم محمد رضا زاهدي.
أيّ ردّ على هذا الاستهداف الكبير لرمز إيراني واضح، من خارج الأراضي الإيرانية ومن غير الإيرانيين أنفسهم. كان سيبدو ضعفاً غير مقبول من الجمهورية الإسلامية ليس فقط من جانب الخصوم والشامتين. بل أيضاً من الحلفاء المقرّبين، وحتى من جانب أنصار النظام نفسه في الداخل الذين انتظروا طويلاً “الردّ المناسب” في “الوقت والزمان المناسبين”. وباتوا يخشون أن يكون “الصبر الاستراتيجي” حافزاً لإسرائيل لمواصلة هجماتها والإمعان في اختباره كلّما دعت الحاجة.
لكنّ الردّ المباشر أيضاً دونه مخاطر الانجرار إلى حرب شاملة لا تريدها طهران على توقيت نتنياهو. الذي لم يفوّت فرصة لجرّ الأميركيين إلى مستنقع كهذا تحقيقاً لمصالحه الشخصية ولبقائه في السلطة ولو على حساب المصالح العليا لتل أبيب وواشنطن.
في الخيار بين الأمرين، جاء الردّ المحسوب بميزان الجوهري والمشغول بدراية حائك السجّاد. ردّ لا بدّ منه، ردّ يقول: نحن هنا ولدينا القدرة والأدوات العسكرية للإيذاء إذا شئنا، لكنّ ردّنا لن يجرّ إلى ما لا نريده. كان شبيهاً بالقصف المنسّق الذي استهدف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بعد اغتيال قاسم سليماني. وهو ردّ أُرفق بإعلان مسبق منح إسرائيل فرصة للاستعداد وتدارك الهجوم قبل فوات الأوان. لكنّ هذا وجهه الأوّل، وأمّا وجهه الثاني فهو القول إنّ هذا العمل “لا سابق له”. وإيران هي وحدها من أرسلت الصواريخ والمسيّرات في اتجاه إسرائيل دعماً لفلسطين، فيما تلوذ الدول العربية بالصمت إزاء مذابح غزة. حتى لو كان هذا الردّ لن يردع إسرائيل عن مواصلة غيّها في الأراضي المحتلّة.
ماذا حقق نتنياهو؟
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي غرق في دماء الفلسطينيين في غزة وأزقّة القطاع المدمّر وأنفاقه. ولم يتمكّن بعد أكثر من ستّة أشهر من القتال المجنون من تحقيق إنجاز ينهي المقاومة الغزّيّة أو يعيد المحتجزين الذين صاروا حملاً ثقيلاً في الداخل على حكومته. أراد من خلال دفع إيران إلى الردّ جملة أهداف نجح في بعضها:
1- المبالغة في رفع مستوى التأهّب الإسرائيلي في مواجهة الردّ الإيراني، لإظهار أنّ إسرائيل كيان صغير مطوّق بالمخاطر من كلّ الجهات ومستهدف من جواره القريب والبعيد. علّه بذلك يعيد اكتساب الرأي العامّ العالمي الذي بدأ ينقلب ضدّه.
2- التغطية على عمليات الإبادة المتواصلة في غزة، والإيحاء بأنّ حرب إسرائيل الأساسية هي مع عدوّ كبير وخطير اسمه إيران. وليست “حماس” سوى أداة تستخدمها طهران لمآربها الخاصة. وتالياً فإنّ ما يقوم به من فظائع في القطاع يستهدف أنصار إيران من الفلسطينيين. وليس الشعب الفلسطينيي عموماً ولا الدول العربية ومصالحها.
3- إحراج حركة الاحتجاج على سياساته في الشارع الإسرائيلي، بإعطاء الأولوية للأمن القومي الجماعيّ على حساب الخلافات الداخلية.
4- إعادة الربط مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. انطلاقاً من إعادة جعل أمن إسرائيل أولويّة أميركية، والتطلّع إلى تحالف إقليمي جديد في مواجهة إيران وحلفائها، وهندسة الدفاع الإقليمي ضدّها.
التحذيرات الغربية والأميركية لإسرائيل بعدم التصعيد والامتناع عن الردّ على الردّ الإيراني لمنع الانجرار إلى حرب إقليمية واسعة. لن تردع بالضرورة إسرائيل ولا نتنياهو (الذي يحتفظ لنفسه بهامش كبير من المناورة بعيداً عن الأميركيين)، عن مواصلة استهدافه إيران والإيرانيين. وهو ما يدخل المنطقة في دوّامة ذات شكل جديد من الصراع. وقد لا تلجمه حينذاك الردود المحسوبة أيّاً كانت “الشطارة” في إنتاجها وإخراجها والإثارة في أسلوب عرضها على الجمهور.
أمين قمورية