بقلم عماد الشدياق
«اساس ميديا»
فيما تتلهّى الأوساط الاقتصادية في لبنان بـ”جنس المصارف”، وتتحزّر مَن مِن بينها يرفض دفع أوّل 100 ألف دولار للمودعين، ومن اجتمع بوفد صندوق النقد الدولي ومن لم يُدعَ أو يحضر، “تطبخ” السلطة النقدية، على نار هادئة، خطّة جديدة من أجل استرداد الودائع (جزء من الودائع طبعاً)، تعتبرها أوساط مصرف لبنان “واعدة” وتستطيع أن تقنع أغلبية المصارف بالسير بها بأقلّ جَلَبَة ورفض ممكنين.
منسّق الخطّة الرئيسي هو مصرف لبنان، الذي يرسم خطوطها العريضة ويهندس فقراتها، كما يحاول تزامناً إقناع رؤساء الكتل النيابية الكبيرة بالسير بها عند طرحها، الذي يُفترض أن يتأخّر نتيجة الظروف الحالية إلى ما بعد اتّضاح صورة النزاع المسلّح بين الحزب والعدوّ الإسرائيلي في جنوب لبنان.
أمّا الخطوط العريضة لتلك الخطّة فتتلخّص في صورة مبدئية بالتالي:
1- حذف الفوائد المراكمة على أصل كلّ وديعة من الودائع، فوق 2%. أي أنّ من حصّل فوائد بقيمة 10%، تُشطب منها 8%، ويبقى 2% فقط. وتقول مصادر الحكومة إنّ قيمة تلك الفوائد تُقدّر بنحو 10 مليارات دولار ستستطيع شطبها من أصل الودائع، وبالتالي التخلّص من مسؤوليّتها بسهولة.
2- إجبار المودع على التصريح عن مصدر وديعته ضمن مهلة 3 أشهر، والتأكيد على أنّها شرعية، وذلك من خلال توقيع المودع المعنيّ على Bank secrecy بغية رفع السرّية المصرفية عن حساباته، اختيارياً. وبعدها عليه أن يصرّح ويثبت كيف جمع هذه الأموال، في ما يشبه “من أين لكَ هذا؟”.
إن لم يفعل المودع ذلك، تُفصل وديعته عن كتلة الودائع الإجمالية المؤهّلة في المراحل الأولى. ولا ينقص هذا من “شرعيّتها”، لكنّها تخضع لمسار أطول وأكثر تعقيداً من الودائع التي جناها أصحابها بطرق موثّقة وسليمة. وسيتمّ استردادها بشكل منفصل ومختلف (بالليرة أو ما شاكل). وثمّة رهانات أن يعجز كبار الموظّفين في الدولة وكبار التجّار، ومن استفادوا من “صيرفة” والعاملون في تبييض الأموال أو التجارات غير المشروعة… إضافة إلى المودعين الأجانب، عن الوفاء بهذا الشرط. وذلك نظراً لطبيعة النظام المصرفي اللبناني الذي استطاع على مدى عقود استقطاب ودائع العرب والأجانب غير الشرعية أو تلك الهاربة من الأنظمة القمعية.
عليه، ترجّح التقديرات أنّ هذه الخطوة ستخفّض حجم الودائع الإجمالي بنحو 20 مليار دولار، فوق المليارات العشرة الخاصّة بشطب الفوائد.
أوّل 100 ألف دولار
3- دفع أوّل 100 ألف دولار من كلّ وديعة “مؤهّلة”، مع إيلاء الأولوية لكبار السنّ، باعتبار أنّهم لا يملكون “ترف” الانتظار، ويُقدّر أن تُراوح دفعاتهم الشهرية، بموجب تلك الخطة، بين 800 و1,000 دولار “فريش” شهرياً.
في هذه الحالة سيستغرق استرداد أوّل 100 ألف دولار قرابة 8 سنوات، في حال اعتماد دفعة 1,000 دولار شهرياً، بينما سيستغرق دفع المبلغ نفسه 10 سنوات في حال اعتُمد رقم 800 دولار شهرياً.
4- التمييز بين تسميتين: “المودع”، وهو من لديه 100 ألف دولار وما دون، و”المستثمر” الذي يملك ما يفوق 100 ألف دولار. في نظر معدّي الخطّة فإنّ “المستثمر” سيجد مصلحته في الانخراط بما يسمّى الـBail-in لأنّ أوّل مئة ألف من وديعته لن تفيده باعتبار أنّه سيحصل عليها مقسّطة. أمّا بقيّة الوديعة فستخوّله أن يمتلك أسهماً في المصرف، خصوصاً إذا أُقرّ قانون إعادة هيكلة المصارف، وتغيّرت مجالس إداراتها وخضعت للتطهير. عندها سيختلف الأمر عمّا هو سائد اليوم، بحسبما تتصوّر مصادر مصرف لبنان.
5- إيلاء صناديق التعويضات مثل صناديق النقابات والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظّفي الدولة وغيرها، وكذلك حسابات المنظّمات غير الحكومية مثل الصليب الأحمر، عناية خاصة باعتبار أنّ المستفيدين من تلك الصناديق مواطنون معدومو الحال ولا بدّ من مساعدتها للحصول مجدّداً على ودائع الصناديق.
6- ضخّ 4 مليارات دولار “فريش” في القطاع المصرفي، بشكل فوري وموحّد. هذه الأموال هي ودائع المودعين المؤهّلة، التي سيحصل عليها أصحابها بالتقسيط (دفعة 800 أو 1,000 دولار شهرياً)، وستكون على شكل سيولة في صناديق المصارف التي ستتمكّن من استخدامها في التسليف. بذلك ستتمكّن المصارف من تحريك العجلة الاقتصادية وتنميتها من جديد، وبالتالي زيادة رقم المليارات الأربعة (التقديرات تشير إلى زيادته بنحو نصف مليار دولار). وهذا سيحصل بموجب تعاميم صارمة يصدرها مصرف لبنان، ويضمن أن تلتزم المصارف بدفعها للمودعين على غرار التعاميم المشابهة (158 وتبعاته).
“نقاط ضعف” الخطّة
تراهن السلطة النقدية في البلاد على أنّ هذه الخطة ستكون كفيلة بخفض مجموع الودائع من قرابة 85 ملياراً اليوم إلى نحو 50 مليار دولار، وذلك بعد حسم 20 ملياراً من بند الودائع غير الشرعية، و10 مليارات دولار من شطب الفوائد. بينما مجموع الودائع التي لن تتخطّى سقف الـ100 ألف دولار، وستكون مؤهّلة للاستعادة فلن تكون أكثر من 17 مليار دولار. إلا أنّ بقيّة الفجوة المقدّرة بنحو 35 مليار دولار لا يُعرف كيف سيتمّ التعامل معها: فهل يتحمّل تبعاتها مصرف لبنان أو الدولة؟ أو المصارف؟ أو تخضع لتوزيع المسؤوليّات وبالتالي توزيع الخسائر؟
هذه الإجابات ما زالت غامضة حتى اللحظة، وهو ما يُعتبر بمنزلة “نقطة ضعف” الخطة. مع العلم أنّها تتعرّض منذ الآن لبعض الانتقادات، وذلك للاعتبارات التالية:
1- حجم المودعين الذين ما زالوا يحتفظون بالفوائد في حساباتهم لدى المصارف، ليس بالحجم الذي تحاول الحكومة أو مصرف لبنان الترويج له، وبالتالي حسم تلك الفوائد قد لا يصل إلى ما يزيد على 2 أو 3 مليارات دولار.
2- الخطة بكلّ تفاصيلها لم تأتِ على ذكر من دفع قروضه على سعر صرف الدولار الرسمي في حينه (1,500 ليرة ولاحقاً 15 ألف ليرة)، فيما كان يملك في مقابل قرضه وديعة بالدولار. وبذلك يكون قد استفاد أوّل مرّة من تسديد القرض بمبلغ بخس، ولاحقاً سوف يستفيد من المطالبة بوديعته، وكأنّ شيئاً لم يكن.
3- الخطة لا تستند إلى أرقامٍ دقيقة، بل تقتصر في مجملها على التقديرات الأوّلية وكذلك النوايا الحسنة، خصوصاً حينما تتحوّل من الكلام والتنظير إلى النصوص. وهنا تقول مصادر مصرفية: “قد يكتشف معدّو الخطّة أنّ كلّ من هلّل لها وأشاد بها، سيطلق النيران عليها حينما تصل إلى مجلس النواب. ولا يُستبعد أن ترفضها الجهة السياسية نفسها التي تدعم حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري”، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بموضوع “تثبيت شرعية الودائع” التي قد تخلق أزمة لدى المغتربين في القارّة الإفريقية، وهم مصدر غنى للبنان وسيكون “من الجنون التضحية بهم أو تدفيعهم الثمن بأيّ شكل من الأشكال”.
4- الخطة غير متكاملة وتشوبها حلقات مفقودة قد تدفع بكثير من المودعين صوب الخوف من التصريح عن شرعية ودائعهم، بمعزل عن كونها شرعية أو حتى غير شرعية. إذ ماذا سيستفيد المودع من “كشف أوراقه” كاملة أمام جهات غير قادرة على تنفيذ ما تعِد به؟ ومن هذا المنطلق، لا بدّ للخطة أن تكون شفّافة %100، وإلّا فقدت مصداقيّتها.
تلك كانت الخطوط العريضة للخطّة المنتظرة، التي سوف تبحث عن جهة تتبنّاها بصراحة وصدق، لا أن تنفض يدها منها عند أوّل امتحان على غرار خطّة الحكومة الأخيرة. لكن إلى حينه، سوف يتأجّل هذا النقاش إلى ما بعد حرب غزة… أو ربّما إلى ما بعد حرب لبنان لا قدّر الله!
عماد الشدياق