خطاب الزعيم الوطني سعد الحريري: إرث تاريخي واستشراف للمستقبل

المحامي  أسامة العرب

يُعيد خطاب الرئيس سعد الحريري في الذكرى العشرين لاستشهاد والده إلى الأذهان محطاتٍ مفصليةً في التاريخ السياسي اللبناني، حيث لم يكن مجرد وقفةٍ تكريميةٍ لرجلٍ أحدث انقلابًا اقتصاديًا وسياسيًا في لبنان، بل جاء محمّلًا برسائلٍ وطنيةٍ تضعه من جديد في قلب المشهد السياسي. وبينما تتأرجح البلاد بين الانهيار الاقتصادي والتجاذبات الإقليمية، بدا الخطاب بمثابة إعلان نوايا لمرحلةٍ جديدة، عن عودة الحريري إلى المعترك السياسي وإلى إعادة إحياء تيار المستقبل واستعادة دوره الفاعل.

الرمزية والتوقيت: لماذا الآن؟

لطالما ارتبطت الذكرى السنوية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري بحشدٍ جماهيريٍ واسع، لكن هذا العام اكتسبت طابعًا استثنائيًا، ليس فقط بسبب الأزمة الحادة التي تعصف بالبلاد، ولكن أيضًا نتيجة الفراغ السني في الساحة السياسية بعد انسحاب الحريري من المشهد عام 2023. ولقد عكس الحضور الجماهيري الكثيف مدى التّوق لعودة قيادةٍ سنيّةٍ وازنة، في ظلّ غياب بدائل قادرة على ملء الفراغ الذي تركه الحريري الابن في الساحة السنية.

كما أن التوقيت يحمل دلالاتٍ تتجاوز البعد العاطفي، إذ يأتي في لحظةٍ حرجةٍ تسبق الاستحقاقات السياسية القادمة، من انتخابات بلدية واختيارية إلى انتخابات نيابيةٍ محتملة عام 2026 فإلى إعادة تشكيل التحالفات الداخلية. وبذلك، فإن الخطاب لم يكن مجرد استذكارٍ للماضي، بل خريطة طريقٍ لمستقبلٍ لا يزال ضبابيًا.

بين الإرث السياسي والتحديات الراهنة

لا يمكن فهم خطاب الشيخ سعد الحريري بمعزلٍ عن إرث والده، الذي أحدث تحولًا اقتصاديًا هائلًا في لبنان قبل أن يقطع اغتياله المسيرة. فقد شكّلت حقبة رفيق الحريري تجربةً فريدةً في إعادة إعمار لبنان، وخلق مناخٍ اقتصاديٍ جاذبٍ للاستثمارات، لكنّها لم تسلم من الصراعات السياسية التي أدّت إلى اغتياله، تاركةً وراءها بلدًا غارقًا في الاستقطاب والشلل المؤسساتي.

اليوم، يُدرك الحريري الإبن أن عودته ستكون دائمة، ولكن عليه مواجهة تحدّيات جمّة كتلك المتعلقة بالانهيار الاقتصادي غير المسبوق، مرورًا بأزمة الانقسام السياسي داخل لبنان.

خطاب فوق الطوائف: محاولة لإعادة رسم المشهد

تميّز الخطاب بلهجةٍ وطنيةٍ جامعة، بعيدًا عن الخطاب الطائفي الذي بات سمةً للمشهد اللبناني. فقد حرص الحريري على توجيه رسائل تهدئةٍ إلى مختلف الأطراف، مؤكدًا ضرورة التمسك بالدولة المدنية وإصلاح المؤسسات بعيدًا عن المحاصصة الطائفية.

كما أن إشارته إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون والحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام عكست توجهًا براغماتيًا، يوحي بأنه مستعدٌ للعمل ضمن معادلةٍ جديدة، قائمةٍ على التعاون ومدّ يد العون للآخرين . هذه المقاربة ستسهم في إعادة بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وستؤدي إلى توازناتٍ دقيقةٍ تتحكم في اللعبة السياسية في لبنان. 

إعادة التموضع الإقليمي: بين الاعتدال والبراغماتية

على الصعيد الإقليمي، حافظ الحريري على موقفه التقليدي الداعم للهوية العربية للبنان، لكنه دعا في الوقت نفسه إلى علاقاتٍ متوازنةٍ مع القيادة السورية الجديدة، مع إشارته الواضحة إلى رفضه الدخول في صراعاتٍ إقليميةٍ قد تعمّق الانقسامات الداخلية. هذا الخطاب المتّزن سيفتح له أبواب الدعم العربي والدولي، خاصةً في ظلّ الحاجة إلى استعادة الثقة الخارجية بلبنان. 

الانتخابات النيابية 2026: بداية المعركة السياسية؟ 

مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، يبدو أن خطاب الحريري وضع حجر الأساس لعودته إلى الساحة السياسية، رغم عدم إعلانه صراحةً عن ذلك. لكن قراءةً متأنيةً للمشهد تشير إلى أن تيار المستقبل بصدد إعادة ترتيب صفوفه، في محاولةٍ لاستعادة موقعه كقوةٍ سنّيةٍ رئيسيةٍ في البلاد.

لكن التحدي الأكبر يكمن في التحالفات المستقبلية مع استقطاب قوىً جديدةٍ تؤمن بمشروعٍ اقتصاديٍ بعيدٍ عن التجاذبات التقليدية، لأن المعادلة اللبنانية لا يمكن أن تظلّ أسيرةَ الاصطفافات القديمة.

بين الترقب والتحديات: ترجمة الخطاب إلى أفعال؟

خطاب الرئيس سعد الحريري لم يكن مجرد استذكارٍ للماضي، بل خطوةٌ أولى في مسيرةٍ جديدةٍ قد تعيد خلط الأوراق في المشهد اللبناني. ونحن متأكدون من أنه سينجح في استثمار اللحظة التاريخية لصياغة مشروعٍ وطنيٍ جديد، وأن التحديات لن تكون أكبر من قدرته على تجاوزها؟ والأيام المقبلة ستكشف ما إذا كان خطاب الحريري بدايةً فعليةً لمسيرةٍ سياسيةٍ متجددة.

المحامي  أسامة العرب