بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
أهمّ ما في كلام المرشد علي خامنئي عن ضرورة حرب غزة، أنّه يثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ علاقة نظامه بالقضية الفلسطينية هي علاقة استثمار وتوظيف للقضية في معادلاته الاستراتيجية والسياسية في المنطقة. لا مكان للفلسطينيين أنفسهم في حسابات خامنئي. فوظيفة عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف النازحين والدمار الهائل الذي ضرب كلّ أسباب الحياة في القطاع هي أثمان بسيطة بالقياس إلى أنّ عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) “كانت ضرورية للمنطقة وأفشلت محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني وسيطرته على المنطقة”، بحسب قوله.
الفلسطينيون، بهذا المعنى، وسيلة لغاية أكبر، هي ضرب مشروع السلام نفسه، بصرف النظر عن مصالح الفلسطينيين أو غيرهم فيه.
تعرف طهران، لأسباب أيديولوجية واستراتيجية وجيوسياسية، أنّ مشروع السلام العربي الإسرائيلي يشكّل تهديداً مباشراً لها، في المنطقة وفي الداخل الإيراني. فمنذ قيام دولة الثورة الخمينيّة في عام 1979، اتّخذت إيران موقفاً معادياً لإسرائيل وأميركا والأنظمة العربية المعتدلة، وربطت هذا الموقف بأيديولوجيّتها الثورية وصوّرت نفسها كمدافع عن المسلمين المظلومين، خاصة الفلسطينيين منهم. وجعل النظام الإيراني من هذا الموقف، الأساس الذي تنهض عليه شرعيّته ويوحّد مواقف الفصائل المختلفة داخل إيران، والوسيلة المثلى التي يشتّت بها الانتباه عن تردّي أوضاعه الداخلية.
ولئن كان هدف إيران أن تكون قوة مهيمنة في الشرق الأوسط، ولو على خراب دوله وتشظّي مجتمعاته، بات مفهوماً أن ترى في اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، تهديداً لنفوذها وتأسيساً لتحالفات أقوى بين إسرائيل والدول العربية، على نحو يتحدّى هيمنتها.
وعدا عن التهديدات الناجمة عن كون هذه الاتفاقيات مدخلاً للتعاون العسكري والأمنيّ بين إسرائيل والدول العربية، ترى إيران أنّ نجاح مشروع السلام سيؤدّي إلى إضعاف وتهميش وكلائها في المنطقة، وزيادة عزلتها السياسية والاقتصادية.
فلسطين كتلطيف لمذهبيّة مشروع إيران
القاعدة العربية السنّية لمشروع السلام، والمرشّحة للاتّساع مع انضمام السعودية، ودول إسلامية أخرى غير عربية، تشكّل تحدّياً كبيراً للهويّة الفئوية للمصالح الإيرانية ولعموم ميليشياتها المذهبية. والحال، تشكّل صورة دعم إيران لفلسطين أداة استراتيجية للتخفيف من حدّة الملمح المذهبي للمشروع السياسي الإيراني وكسب دعم أوسع في المجتمعات السنّية ومحاولة التأثير السياسي فيها كما يحصل في الأردن.
من خلال ركوب موجة الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، تطمح إيران لتزعّم النضال الإسلامي الأوسع ضدّ الظلم والقمع الإسرائيلي. كما أنّها تستثمر هذه السردية الإسلامية الشاملة لتوحيد الحركات والميليشيات المتنافرة مذهبياً وتوظيفها ضدّ خصومها، لا سيما الحكومات العربية في الخليج.
لم يكن غريباً في هذا السياق أن ترفض حماس كلّ محاولات وقف إطلاق النار عبر تقديم شروط الحدّ الأقصى. فإيران، عبر ميليشياتها، تسعى إلى تعميق الصراع لتعزيز نفوذها الإقليمي وزعزعة استقرار خصومها، ورفع حدّة الخلافات بين وداخل الشعوب العربية أيضاً.
إيران النقيض لوجود الفلسطينيّين
ما ينبغي قوله، ببساطة شديدة، أنّ مشروع السلام وضع غزة والضفة الغربية على خريطة مشروع الدولة الفلسطينية، مع كلّ العثرات التي تواجه هذا المشروع، من استيطان واحتلال وغياب للشريك الإسرائيلي راهناً. في المقابل مسح مشروع ما يسمّى المقاومة غزة من الوجود كما هو بائن اليوم. لم تؤدِّ عقود من المقاومة المسلّحة إلى إقامة دولة فلسطينية أو تحسين أوضاع الفلسطينيين، بل جعلتهم عرضة للتهجير والقتل والتدمير والمعاناة الدائمة.
من المذهل أنّ الدول العربية التي تعمل على وقف الحرب وتسعى لحلول دبلوماسية، تُصنَّف على أنّها ضدّ الفلسطينيين، بينما تسوَّق الدول التي تمعن في إطالة أمد الصراع عبر الدعم العسكري وخطابات التعبئة الحربية على أنّها مؤيّدة للفلسطينيين.
الدول العربية التي تسعى لتحقيق السلام تدرك المعاناة الطويلة المتأتّية عن الصراع المستمرّ على المدنيين الفلسطينيين. وهي تعمل نحو حلول مستدامة يمكن أن تؤدّي إلى سلام دائم واستقرار اقتصادي ومستقبل ممكن للفلسطينيين ولو لم تحقّق العدالة المطلقة. على النقيض من ذلك، تستخدم إيران القضية الفلسطينية كأداة لأجنداتها الجيوسياسية، وتعتبر أنّ معاناة الفلسطينيين سلعة مفيدة في لعبة صراعات النفوذ.
الدعم الحقيقي لحقوق الفلسطينيين لا يستلزم بالضرورة الانحياز إلى الطموحات الجيوسياسية لإيران. بل إنّ الأخيرة باتت، بعد غزة، هي النقيض الموضوعي لا لحقوق الفلسطينيين وحسب بل لوجودهم بحدّ ذاته.
نديم قطيش